متحف زقاق البلاط الجداري في بيروت يجمع تناقضات القديم والحديث
ذوق وفن محليان تغلبا على كآبة الجدار وعزلته فصار معلماً
من زهرة مرعي
قبل الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 كانت منطقة زقاق البلاط في مدينة بيروت مكاناً سكنياً جميلاً وهادئاً، تميّز بهندسة أبنيته التي تبث إحساساً ودوداً لجمعها بين الفن والعراقة. منطقة جمعت الأغنياء والفقراء، والشعراء والرسامين والسياسيين والفنانين وعدداً وفيراً من المنازل والمراكز الثقافية منها غوته. فالمنزل الذي سكنته فيروز حتى تاريخ زواجها من عاصي الرحباني كان لا يزال قائماً حتى قبل سنتين. في زقاق البلاط التي سكنها أول رئيس لجمهورية لبنان الشيخ بشارة الخوري حائط رملي عتيق يعود لمكتبة لبنان أوحى لجيرانه بأن يجعلوا منه متحفاً في الهواء الطلق. فصار يجمع إلى جانب القديم من المقتنيات القيمة المشغولة يدوياً، بعضاً من الصناعات الحديثة منها المضر بيئياً كالمصابيح الكهربائية المقتصدة للطاقة.
جدار زقاق البلاط الشهير ينتصب وسط بيئة شعبية، يستوقف المارة فيتأملون محتوياته التي تتناسق أو تتناقض. الراعون للجدار ثلاثة جيران، علّقوا عليه في بدايات تأسيسه نحاسيات ذات قيمة تاريخية جمعوها بجهد شخصي. بعضها كان مرمياً في مكبات قريبة. لمعت تلك النحاسيات بعيون بعض المارة، فصارت هدفاً لأيديهم، واختفت.
ما زال النحاس متوافراً على الجدار الفني لزقاق البلاط، ويقتصر على بعض الصواني الصغيرة الحجم. كما تتعدد أشكال وأنواع المرايا، ويبقى الباب الخارجي للشرفات والمعروف بـ «الأباجور» بلونه الأزرق وحجمه الكبير قياساً لسواه الأكثر جذباً للنظر. وكذلك الباب الداخلي الذي صار لوحة اعلانية محلية للحي.
سكان الحي فرحون بجدارهم صاحب الشهرة العالمية، وفرحون بتميزه عن سواه في بيروت. يستقطب كاميرات الصحافيين، ويستهوي الأجانب الذين يقصدون المكان بحثاً عن هندسة عمرانه. يملك ابراهيم شومان متجراً مقابلاً للجدار وهو من مؤسسي الجدار، يشرح أن ملكيته تعود لمكتبة لبنان الواقعة خلفه، إلى جانب مدرسة زقاق البلاط الرسمية. يقول شومان بأن اصحاب المحال التجارية المقابلة للجدار منعوا انتشار النفايات على رصيفه، فانحصرت في المستوعبات على بعد أمتار منه. بدأت الفكرة بتعليق شبكة صيد بحري وجدت مهملة في المكب، ومن ثم توسعت وتنوعت المحتويات بفعل مشاركة الجميع في تعزيزها.
شبكة صيد السمك لا تزال موجودة. تلتها آنية فضة قديمة جداً تحمل نقوشاً نادرة، إنما «حلْيت» بعين أحدهم فاستعارها خلسة ولم يعدها. يختصر شومان مبادرته مع زملائه بعنوان «ذوق وفن». ويقول: «بدل أن ينتصب الجدار أمامنا أجرداً وكئيباً، صار حالة فنية. وفي مرحلة ماضية وضعنا لوحة أتاحت لمن يرغب من سكان الحي التعبير عن أفكاره في الأدب والشعر وبعض الحكم. ولسبب غير معروف أُزيلت، وبقي لنا باب داخلي عتيق يحمل حالياً بعضاً من الجريدة الرسمية».
لا يخجل شومان من القول: «عيننا على ما يحمله الناس إلى مستوعبات النفايات من مقتنيات لا يفقهون أن لها قيمة جمالية». ويعلن أن جاره توفيق الشعار المختص ببيع مستلزمات الكهرباء شريك في ابتكار فكرة الجدار وتعزيز محتوياته، بخاصة ما له صلة بالإنارة. ثمة تسلسل في عائلة الإنارة على الجدار بدءاً من القنديل الذي يشعله الكاز، مروراً بتلك التي استخدمها اللبنانيون خلال عتمة الحروب الطويلة، وصولاً إلى أخرى لها صفة توفير الطاقة. ويحتل وسطها كيبورد الحاسوب الذي بدلتـه الغـبار من أسـود إلى بنـي.
محمد جابر العضـو الثـالث المؤسـس لمتحف الجدار يجتهد في إحضار كل جميل ومفيد لتعزيز المشـهدية. يشكو جابر من السرقة التي تعرض لها الجدار، ويعلن بأن تثبيت المحتويات جيداً ربما يحميها من السرقة، فالسارق يتجنب الضوضاء حين يقرر الفوز بما يبغيه.
آخرون من خارج الحي يأتونه بجديد، إذ قرر صديق للثلاثي شومان، شعار وجابر إهداء الجدار بيتاً صغيراً من صناعته لجذب العصافير، إن رغبت. البيت من الخشبيات التي اضيفت لـ «أباجور» الخشب الذي تراجع لصالح الألومينيوم. فالجدار يذكر بحقبات مختلفة منها غربال القمح، إطارات الصور واللوحات التي شكلت حالة سوريالية تبحث عن تكامل ما. تتعدد ساعات الحائط، والأباريق الفخارية وتتنوع حجماً وشكلاً. فيما ارتفعت فوق الجدار الذي يصل لثلاثة أمتار تقريباً مصابيح لا تُحصى. سترة طفل شتوية كانت حمراء قبل أن يبدل الزمن لونها. يبرر شومان وجودها بأن صلبها على الجدار أفضل من أن تفنى بين النفايات.
لا مشاريع للتوسع إلى أحياء جديدة حسب شومان، ومن رغبوا بتقليدنا في الأحياء القريبة فشلوا. والسبب الأساس برأي جابر أنهم افتقدوا جداراً رملياً، وكل جدار جديد يُفقد الفكرة محتواها وحيويتها.
يروي جابر مفارقات حصلت بفعل الجدار- المتحف، منهم من يسأل إن كنا نضع مقتنياته نهاراً ونرفعها ليلاً؟ ومنهم من يطلب شراء بعضها. رفضنا بيع لوحة لسيدة أصرت على شرائها بـ100 دولار، أتت باكراً وحملتها معها. اللوحة مشغولة بالإبرة من نوع «كامفا». «فعلتها ليست سرقة بل رغبة بالإقتناء، فالسيدة معروفة ومحترمة، وسرقتها مهضومة». المسروقات عن الجدار لا تُحصى جميعها من النحاس والفضة، وكذلك صورة عتيقة لرجل يعتمر الكوفية.
التعليقات على الموضوع