السياسة الأردوغانية والاقتصاد التركي 1-2
الكاتب: محمد حبيب عيسى
مقدمة
العلاقة بين الاقتصاد والسياسة علاقة وثيقة، فالاقتصاد القوي يوجد استقراراً سياسياً واجتماعياً، في حين أن الاقتصاد الضعيف يولد مشكلات كثيرة، كما أن السياسة الرشيدة والحكيمة تخلق اقتصاداً قوياً ومناخاً مناسباً للنمو الاقتصادي، وكلما كان هناك استقرار سياسي كان هناك ازدهار ونمو اقتصادي، والعكس صحيح. ولعل الكثير من الصراعات السياسية كانت خلفياتها مصالح اقتصادية، ولكن عندما يكون الفاعل السياسي فاعلاً اقتصادياً في نفس الوقت، فإن العلاقة بينهما تزداد تعقيداً والتباساً، وفي مثل هذه الحالة تتم الإساءة للاقتصاد والسياسة معاً، فلا الاقتصاد يمكن أن يتطور في بيئة تنعدم فيها شروط المنافسة الاقتصادية، ولا السياسة يمكن أن تتطور بسبب هيمنة المال على الشأن السياسي، ولكم أفتى الكثير من الفقهاء بـ “عدم جواز الجمع بين الإمارة والتجارة”.
ويمكن للباحثين أن يفسّروا سلوك الدول من العوامل الاقتصادية، فالدول تستجيبُ للأحداث الآتية من البيئة الخارجية بناءً على موقعها في النظام الاقتصادي، وغالباً ما تلعب تلك العوامل دوراً مركزياً في خيارات السياسة الخارجية، لأن تنفيذ السياسات يتطلَّبُ توافر الموارد الاقتصادية، ويحدِّد توافر تلك الموارد ما إذا كانت هذه الدولة مانحة للمعونة أم مستقبلة لها، كذلك تحدِّد قدرة الدولة المستقبلية، كالمشاريع الضخمة والتبادل التجاري، أو تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، علماً أن توزيع الموارد في النَّسق الدولي لا يحدِّد السياسات المتبعة، بل يضع حدوداً على مدى بدائل السياسة الخارجية المتاحة، فالدول التي تُعاني من نُدرة الموارد لن تستطيع، ولو أرادت ذلك، أن تلعَب دور الدولة الكبرى، ولا يعني هذا أن توافر الموارد يضمن لها أن تلعَب هذا الدور، ولو أردنا المقارنة بين الأثر النسبي للعوامل الاقتصادية والعوامل السياسية – الأمنية – على السياسة الخارجية، فإننا سنجد أنه من الصعب الفصل بين هاتين المجموعتين، لأن الأدوات الاقتصادية عادة ما تستَخدم لتحقيق أهداف سياسية وأمنية.
وبالرغم من أن الأمن الوطني هو العامل الأول المحرِّك للعديد من التصرفات الاقتصادية، فإن الكثير من السياسات التي تُبرَّر على أساس الأمن الوطني، إنما هي سياسات تحركها المصالح الاقتصادية، وإن بدا أن الغاية ليس تحقيق الربح أو المنفعة، فالدول تسعى عادة لتبرير سياساتِها على أنها تحقّق مصالح أمنها الوطني، بغض النظر عن الدوافع الحقيقية لتلك السياسات.
إن حدوث تغيّر في السياسة وانتقال النظام السياسي من ناحية للأخرى، “كما حدث في تركيا”، يضيف قدراً كبيراً من عدم اليقين – أي فارق التحول في القرارات “سياسياً أو اقتصادياً” بين الحكم القديم والجديد- فيما يتعلق باتخاذ القرارات الاستثمارية، فالحكومة التركية أصبحت بمثابة الوكيل الاقتصادي للقرارات الاستثمارية، ومن أمثلة ذلك: [” القمع الحكومي والتفرد بالقرار السياسي والفساد الحكومي، وانتهاك حقوق الإنسان وإساءة استعمال أو سوء استخدام الموارد لتلبية مطالب جماعات المصالح التي تؤثر على الاستثمار والنمو الاقتصادي، ناهيك عن الاضطرابات السياسية الداخلية والخارجية التي أججها الغرور والتفرد والحلم الاردوغاني “سلطان الباب العالي” أو “العثمانية الجديدة”]، ولكي ندخل في صلب موضوع البحث، لابد من دراسته بفرعيه السياسي والاقتصادي كل على حدة، ومن ثم ربطهما ببعض لأن كل منهما يكمل الآخر، يؤثر فيه ويتأثر به.
1- على الصعيد السياسي:
كي تكون الدراسة دقيقة على هذا الصعيد، كان لابد من دراسته على مستويين: داخلي وخارجي، وانعكاسهما على الاقتصاد التركي في ظل سياسة اردوغان وحزبه الحاكم “العدالة والتنمية”.
آ- داخلياً: “كل صوت مختلف وصاحب رأي معارض هو إعاقة لتقدم تركيا، وتجب محاربته”، هذا الشعار الذي اعتمده رجب طيب اردوغان، وبنى عليه خططه ومن خلالها يعمل، فلاحق وعزل ونقل وهمش وعزز، لاحق الأطراف التي وقفت وراء كشف العديد من ملفات الفساد المتغلغل في نظامه، والمتورط فيه شخصياً، وكسر شوكة العلمانيين الأقوياء، وروّض الجيش التركي وجنرالاته الاتاتوركيين، وأقصى “الغولينيين”- جماعة صديقه اللدود عبد الله غولن، الذي كان السند القوي “اقتصادياً وسياسياً” له حتى الأمس القريب- وفكّك شبكتهم المتجذرة في الإدارة والشرطة والقضاء وضرب الُبنى التحتية الداعمة لها، وحارب رجال المال والأعمال حتى دانت له السيطرة عليهم تماماً، أو كاد، خاصة مع وصول الطبقة البرجوازية الجديدة “نمور الأناضول” ذوي النشأة الخفية والتوجه الإسلامي – التي بدأت رحلة صعودها معه – إلى مراكز الحكم والإدارة والاقتصاد وأصبح لها الكلمة العليا في إدارة شؤون البلاد، قاتل رجب طيب اردوغان في الساحة الداخلية بشراسة قلّ نظيرها ليعزز سيطرته شبه الكاملة على السلطتين التشريعية والقضائية، وعقد اجتماعات هيئة المستشارين حول قيام النظام الرئاسي عام 2015، دون إصلاحات دستورية وقانونية تجيز له ذلك، محاولاً نقل صلاحيات رئيس الوزراء إلى مقر إقامته في “القصر الأبيض” الجديد كرئيس دولة، فهل هذا ينبئ بظهور زعيم سلطوي في دولة “ديمقراطية”، كما يُطّبل لها؟، أم ينبئ باحتمالات تفجر الأوضاع السياسية في “الدولة العلية”؟
على صعيد النسيج الاجتماعي الداخلي: لا تزال منظومة حكم اردوغان تمارس “الانتهازية السياسية” بعلاقاتها الشبه جيدة نسبياً مع أكرادها، فهي تراهن على الصوت الانتخابي الكردي من خلال عملية السلام بينها وبين حزب العمال، من جهة، وبالمقابل، لا زال اردوغان يصر ويؤكد على أن حزب العمال الكردستاني ليس أقل تطرفاً من تنظيم “داعش”، من جهة أخرى، فهل هذا الازدواج والانتهازية يدلان على سلامة الرؤية السياسية، أم هو إفساد لتلك العلاقة الشبه جيدة نسبياً، مضاف إليه، معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، واستفزاز مشاعرهم بمواقفه من أحداث عين العرب السورية، التي غالبية سكانها من الأكراد، وموقفه الداعم لـ “داعش” ضدهم أيضاً، علاوة عن تنامي حدة الاستقطاب الداخلي على أسس مذهبية طائفية وعرقية وإيديولوجية مع فئات أخرى لها ثقلها الاجتماعي، واتهامها علانية بالعمالة للخارج من قبل اردوغان شخصياً بسبب الانتماء الطائفي وحرمانها من أبسط حقوقها الدينية والسياسية- 81 محافظة، جميع محافظيها من طائفته-، وإصراره على فرض القيم السُنية المحافظة على المجتمع التركي عامة، والعمل على زيادة تَديُّن الأجيال، إلى درجة ضج الأهل من إجبار أولادهم على الالتحاق بمدارس الإمامة والخطابة؟، وكانت الحجة عدم توفر المقاعد في المدارس العامة العلمانية لاستيعابهم، إضافة لإعلانه أمام الملأ أنّ المساواة بين الجنسين “تتعارض مع الطبيعة البشرية”، وإدانته للإجهاض علناً، مما جعل تركيا في المرتبة 125دولياً، بحسب التقرير العالمي لعدم المساواة بين الجنسين، ضمن قائمة ضمت 142 دولة.
إن هذا التمظهر في الدين والتشدد فيه، ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل والخارجي أيضاً، نجح أردوغان في ركوب موجته، ليقود من خلاله مشروع الفتنة في المنطقة، الهادف لتحويل الجمهوريات العسكرية إلى جمهوريات إسلامية، لا بل سلفية تكفيرية، وساعده في ذلك تركيز الغرب على مشروعه الإسلاموي وتقديمه بوجه جميل. ومسرحية “دافوس” بين اردوغان وبيريز، خير دليل، وبناء عليه أصبحت تركيا الحامل له، وتحول الشارع التركي إلى شبه إسلاموي، فالمؤيدون للتنظيمات المتطرفة كثر، والمحلات التي تبيع شعاراتهم منتشرة بشكل علني، حيث يمكنك شراء سترة أو قلادة عليها شعارهم بسهولة، فهل هذا يخدم تركيا ويبشرها بمستقبل مستقر وآمن؟، أم أن هذه المظاهر تشير بوضوح لموجة من الإرهاب والاحتجاج؟، خصوصاً بعد تحول الشريط الحدودي مع سورية إلى حواضن شعبية داعمة لهذه التنظيمات المتطرفة، أليست عملية القبض على المجموعة الجهادية “التحشية” التركية المرتبطة بتنظيم القاعدة، أول الغيث؟، إضافة لتنامي أعداد الأتراك المقاتلين في صفوف – “داعش” و “النصرة”- الإرهابيتين في سورية والعراق، فهل هذا يخدم الاقتصاد التركي وتركيا؟
– على الصعيد الحزبي: ربما تكون العلاقات القوية بين اردوغان زعيم الحزب الفعلي وأحمد داود اوغلو الزعيم الجديد للحزب، والعناصر الفاعلة داخل الحزب، أحد العوامل التي ساهمت في تماسك الحزب، رغم التأثيرات التي قد تنتج بفعل خروج اردوغان من الحزب- كونه يمثل 70% من قوة الحزب- حسب المحللين السياسيين- لما يمتلكه من كاريزما وحنكة خطابية، والمقتضيات القانونية لمنصبه الجديد كرئيس للدولة، والتبعات السياسية التي ورّثها لحزبه قد تجعل الحزب ينوء بحمله الثقيل، لما فيه من منغصات وتحولات، وهو على أبواب الانتخابات البرلمانية القادمة، ومن هذه التبعات: أن حوالي 72 من نواب الحزب سيتركون مقاعدهم لاستمرارهم ثلاث دورات برلمانية متتالية، ولائحة الحزب الداخلية لا تجيز خوض الانتخابات أكثر من ذلك، فهل يشكلون حزباً جديداً ويكون الانشقاق؟، كون معظمهم مؤسسون، واوغلو طارئ عليهم لا يقبلون قيادته؟، إضافة للخروج غير المشرف لرئيس الجمهورية السابق عبد اللـه غول من الحكم، وغدر توأمه السياسي – اردوغان- به، وانعكاس هذا على مواليه الذين لن يُسمح بترشحهم، مضاف إليهم أسماء جماعة الخدمة- غولن، والمقربين منه، وماذا عن نوابه الذين لم يساندوه داخل البرلمان بفضائح الفساد والرشوة التي طالته ورجاله؟، والوزراء الأربعة المتهمين بالفساد، ويبقى التحدي الحقيقي المحتمل مواجهته، أن ينضم غول، كردة فعل، لأحد الأحزاب السياسية التي تشكلت قريباً، خاصة أن إحداها قريب منه، أو البقاء داخل الحزب وتشكيل تيار فيه مناهض له، ويكون” التصدع”، فـ “غول” له ثقل سياسي في الحزب والناس، فهو الأول في : “رئاسة الحزب، ورئاسة الوزراء ورئيس الدولة عن الحزب”.
إن التداعيات السلبية للنزعة الفردية والتسلطية لاردوغان أضحت تمتد إلى صفوف حزبه، حيث أن 29% من أعضاء الحزب ضد سياسته، والبعض منهم يعتبر أن الحزب بات يفتقد للديمقراطية بسبب الإرادة المتفردة المتغطرسة والمتحكمة بأموره، إضافة لسوء إدارة الحكومة في التعامل مع المحتجين في ساحة التقسيم، التي فضلت العنف غير المبرر على الحوار معهم وإقناعهم أو الاقتناع بمبرراتهم، وزاد الطين بلّة، تصريحات اردوغان متهماً فيها المحتجين “باللصوص” الذين ينفذون مؤامرة مدفوعة من قبل بعض الأحزاب الداخلية وبعض القوى الخارجية، علماً أن من نزل إلى الشارع بهذا الحجم هم ذو سوية معينة وطبقة نخبوية “طلبة جامعات- أطباء – محامين،….إلخ”، ورغم هذا، فالغرور وجنون العظمة دفعا بإدارة الأزمة على نحو مختلف، فكان الرقص على “حافة الهاوية”.
على الصعيد المؤسساتي: عمل رجب طيب اردوغان جاهداً لإبعاد المؤسسة العسكرية عن العملية السياسية، مبرراً ذلك بتلبية معايير العضوية الأوربية، ونجح في ذلك، ثم أكمل هذه العملية بتعديلات قانونية، ضَمِن من خلالها، عدم وجود أي دور لهذه المؤسسة في التأثير على مسار العملية السياسية، وعدم التدخل فيها بحجة حفظ الأمن واستقرار البلاد، فبات “عهد الانقلابات العسـكريـة” في ذمـة التاريخ، وأصبح الجيش خلف القضبان، وتمكن من نقل تبعية “قيادة الأمن العام” من رئاسة الأركان إلى وزارة الداخلية، لتتحول إلى مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيش، وصار بإمكانه محاكمة العسكريين الذين في الخدمة أمام محاكم مدنية، وسيطر سيطرة شبه كاملة على المؤسسة البرلمانية والقضائية والداخلية بعد أن عزل جماعة غولن منها، بتعديلات متلاحقة سمحت لحزب العدالة أن يكون له اليد العليا في اختيار أغلب عناصر مجلس القضاء الأعلى، وعين بشكل علني 144 عضواً في مجلس القضاء و33 عضواً في مجلس الدولة، وأصبح مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة مرتبطين فعلياً برئيس الجمهورية، ويأتي أخطر القوانين القضائية التي أسفر عنها، تشريع “الاشتباه المعقول”، وبموجبه يمكنه اعتقال أي شخص بقرار من المحكمة ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة وحقوقه وودائعه، ويبقى الأخطر لما يهدف إليه الحزب، هو السيطرة شبه الكاملة على مؤسسات أجهزة الأمن التركية، بحجة مواجهة المؤامرات التي تحاك ضد استقرار تركيا، والقضاء على ما أسماه “الكيان الموازي”، أي جماعة غولن، وأصبح مجلس الأمن الوطني تابعاً لمجلس الوزراء يخبره بآرائه ثم ينتظر ما يسند إليه من مهام لتنفيذها ومتابعتها، بعد أن نجح بتعديل المادة الرابعة من الدستور، كما شملت التعديلات طبيعة قرارات مجلس الأمن الوطني، فتم إلغاء نص “يراعي مجلس الوزراء قرارات المجلس بعين الاعتبار الأولى”، وأصبح النص، “يقوم مجلس الوزراء بتقييم قرارات مجلس الأمن الوطني”.
بدوره لم يسلم الإعلام منه، فكمَّ الأفواه ومارس الخنق المنظم للحريات، ونالت تركيا بفضله المرتبة الأولى في العالم بنسبة عدد الصحفيين والكتاب المسجونين، إضافة لشراء الصحفيين ودور النشر وخنق الحريات، ووجهت العديد من التقارير الدولية انتقادات لحكومته بسبب تراجع حرية الصحافة، وباتت الحكومة تشكل كابوساً بالنسبة للدولة والإعلام، وحتى “عبد القادر سيلفي”، الكاتب في صحيفة ” يني شفق” المعروف بقربه من اردوغان وأحمد داود اوغلو، والذي يمرران عبره ما يريدان من تسريبات ومعلومات خاصة إلى الرأي العام، رفع صوته معترضاً على العملية البوليسية التي حصلت 14/12/2014، وطالت أكثر من 31 شخصاً معظمهم من الصحافيين، ومعدي البرامج والمسلسلات، كأمثال، “دومانلي و هدايت قرة جه” ، ولكن الأغرب كان، رد اردوغان على الانتقادات المتواصلة ضده وضد حكومته أثناء اجتماع السفراء الأجانب المعتمدين في تركيا بـ 5 كانون الثاني 2015، حيث قال: ” أقولها بتحدٍ، ليس هناك حرية في الإعلام لا في أوروبا ولا في الدول الغربية الأخرى مثلما لدينا هنا في تركيا”، فإذا كان هذا صحيحاً!، لماذا تغرق القنوات المعارضة بالعقوبات المالية الباهظة؟، رغم أنها الأولى من حيث المشاهدة، أليس لأنها لا تواليه وحكومته، بينما الموالية ترفل بملايين الليرات من شركات القطاع العام التركية خلال عام 2014؟ ويأتي التفسير من أحد أعضاء المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون التركي، أسعد تشيبلاك: ” هذه العقوبات بسبب عرضها أخباراً حول اللجنة البرلمانية لتقصي الحقائق بشأن أعمال الفساد والرشوة”، ولكن ألم يكن هذا منشوراً في الصحف”؟
البطالة
مطلع عام 2014، قامت حكومة اردوغان بتغيير الطريقة الإحصائية في تركيا، ففي مقال نشره الموقع الالكتروني لجريدة زمان التركية بتاريخ 6 آذار 2015، للكاتب محمد تشتينجولتش، قال فيه: لقد تم إخفاء عدد العاطلين وفق الطرق الإحصائية المختلفة في عام2014، لكنه بلغ نحو 400 ألف عاطل عن العمل، ولو لم تتغير طريقة الإحصاء لوصل العدد الرسمي إلى 3 ملايين و500 ألف شخص، ولو أضفنا عدد اليائسين الذين فقدوا الأمل في العثور على عمل إلى العاطلين عن العمل، لتبين أن العدد الحقيقي 5 ملايين و 600 ألف، كما أعدّ البروفسور الدكتور خورشيد جونداش، نائب حزب الشعب الجمهوري في البرلمان، جدولاً بين فيه بكل وضوح الآثار التي تركتها “المعجزة الاقتصادية” لحكومات العدالة والتنمية على المواطن، وقال لو أضفنا الرقم الذي صرحت به الحكومة لبلغ الرقم 6 مليون عاطل عن العمل، ويتابع الكاتب، هذا هو انعكاس التنمية الاقتصادية والدخل القومي الذي ازداد 3,5 ضعفاً على الشعب التركي في عهد هذه الحكومة التي يقال إنها الأكثر نجاحاً.. لا نشهد سوى المزيد من البطالة والمزيد من اليائسين؟!.
الفساد
في حملة إيديولوجية واضحة، وتحديداً منذ بداية عام 2011، بدأ اردوغان يتصرف بأسلوب مختلف، يرتب بيته الداخلي وفق رؤيته الخاصة تمهيداً للوصول إلى مبتغاه أو لمشروع انخرط فيه وكان رأسه، فقد ضرب نخبة الأعمال الكبيرة التي تشكلت بدعم من الجيش لعقود، ومنح تعاقدات حكومية مربحة لأشخاص على صلات بحزب العدالة والتنمية، ولأفراد من عائلته وحزبه وحاشيته من الوزراء، وباع جميع ممتلكات القطاع الحكومي للرأسمال الأجنبي، الذي أصبح يسيطر على حوالي ٧٠٪ من قطاع المصارف والأسواق المالية، ما ساهم في تحويل تركيا إلى مركز رئيسي لغسل الأموال، وفق تقارير أوروبية وأميركية، والتي أشارت أيضاً إلى قضايا الفساد الخطيرة التي طالت اردوغان وأولاده ووزراءه، كما توقعت مستقبلاً قاتماً له في حال استمر في حساباته الشخصية التي تتناقض مع حسابات واشنطن والعواصم الغربية، فهل مصير عدنان مندريس ووزير خارجيته فطين رشدي، وهو خشبة الإعدام التركية، ينتظران اردوغان ووزير خارجيته السابق ورئيس وزرائه الحالي “اوغلو”؟
لم يحدث في عهد من العهود عمليات رشوة وفساد باسم الدين كما يجري الآن في تركيا، حيث تم طلب تبرعات ” قسرية” من رجال الأعمال لبناء جامع ضخم بغية جذب انتباه الرأي العام إليه، مقابل الوعد بتسهيل أمورهم التجارية.. فما علاقة ذلك بالفكرة أو النظرة الإسلامية؟! وهل هذه الرؤية إسلامية؟ ولكن يبقى السؤال، أين تذهب هذه الأموال؟، وكم منها مسجَّل؟ ، أم أن المتدينين مستحيل أن يسرقوا؟
في مقابلة تلفزيونية، جرت في 25 كانون أول 2014، شارك فيها أكرم دومانلي، على قناة “بوجون”، قال: بأن اثنين من كبار رجال الأعمال اللذين يزورانه من حين لآخر، قالا له: لم يعد بالإمكان تسيير الأمور بغير رشوة في الدوائر الحكومية، وفي كلمة ألقاها البروفيسور حسين باغجي في ملتقى المثقفين الأتراك والروس الثالث في مدينة انطاليا جنوب غرب تركيا أوضح فيها، أن العالم الإسلامي أوشك على أن ييأس من اعتبار تركيا نموذجا في الديمقراطية والانفتاح نتيجة الفساد المستشري فيها.
وكشف نواب المعارضة باللجنة البرلمانية للتحقيق في قضايا الفساد والرشوة التي طالت بعض الوزراء السابقين وبعض المقربين من الحزب الحاكم والرئيس اردوغان، أن الوزراء المتهمين في قضايا الرشوة تلقوا ما لا يقل عن 62 مليون دولار أمريكي تقريباً كرشوة، وبعملية سريعة استطاع اردوغان، نقل وتغيير المسؤولين في النيابة العامة ورجال الشرطة الذين لعبوا دوراً أساسياً في كشف قضية الفساد، وعين قضاة ومدعين عامين موالين ومقربين منه، أفضى ذلك لإصدارهم قراراً بإعادة هذه الأموال إلى أبناء الوزراء الفاسدين والبيروقراطيين، واحتساب فوائدها وتسليمها إليهم بالفوائد، رغم أنها سجلت “أموال رشوة”، وكشفت صحيفة “سوزجو” التركية أن بلال الابن الأصغر لاردوغان اشترى مكتباً بقيمة 150 مليون دولار على ضفاف مضيق البوسفور ليتمكن من إدارة شركته لنقل النفط ومجموعة BMZ المساهمة للنقل البحري وبناء السفن”، وأن بُـراق، الابن الأكبر لاردوغان، يملك خمس سفن تجارية، وأن عمه وصهره باشرا الدخول في قطاع النقل البحري كشركاء لشقيقه بلال ويمتلكان سفناً عديدة، وتبقى التسجيلات الصوتية التي ظهرت عقب عملية كشف الفساد في 17 كانون الأول 2013، تؤكد أن اردوغان طلب من ابنه بلال أن ينقل 30 مليون يورو موجودة في المنزل إلى مكان آخر، وتقول المعارضة التركية أن اردوغان حصل على رشوة من رجال الأعمال استطاع من خلالها تكوين ثروة قدرت بمئات الملايين من الدولارات تضاف للمليارات التي تلقاها من جورج بوش الابن أيام غزو العراق، غير الدعم الخفي وماله “الأحمر السياسي والأخضر الإسلامي”، لخدمة المشروع الإسلاموي السياسي في المنطقة.
ووفق إحصائية أجريت حول ملف الفساد جاء فيها، أن غالبية كاسحة بنسبة 61%، وافقت على رفع دعاوى قضائية ضد المئات من رجال الأعمال ومسؤولي الحكومة والوسطاء المتهمين بقضايا الفساد، وأفراد أسرته، فكان رد اردوغان بأن هناك تآمر ضد حكومته والتخطيط لانقلاب عسكري، وعلى هذا، شن حملة تطهير واسعة على الشرطة والقضاء في كانون الثاني 2014، نتيجة كشفها لملفات الفساد، وحاول التعمية والتلميع والترقيع والتعديل لكنه فشل في التعديل الوزاري الذي أجراه لتخفيف قلق المستثمرين من تبعات فضيحة الفساد المتصاعدة، وأقر نائب رئيس الوزراء التركي للشؤون الاقتصادية علي باباجان، أن خسارة اقتصاد بلاده وصلت إلى نحو عشرين مليار دولار، نتيجة تراجع سوق المال التركية قرابة 3%، وهبوط سعر الليرة مقابل العملات الأجنبية، وتراجع زخم النمو للاقتصاد التركي المتأثر بتراجع الصادرات”، ولكنه كسيده أعزى سبب ذلك، للأحداث الجارية في المنطقة وليس الفساد.
إن تحقيقات قضايا الفساد تفرض تحدياً كبيراً على اردوغان، يصفه محللون ودبلوماسيون غربيون بأنه من الممكن أن يكون أقوى من معركة احتجاجات “ساحة التقسيم”، لكن اردوغان وصف عملية اعتقال العشرات من المقربين منه والحكومة بأنها “عملية قذرة” تستهدف تقويض حكمه.
فضيحة الفساد غير المسبوقة التي هزت حكومة حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، لم تقتصر عليها فقط، بل هزت تركيا وتسببت في أزمة سياسية كبيرة في البلاد، ولكن يبقى التساؤل يتمحور حول ما إذا كانت هذه الأزمة تنبعث من الداخل أم أنها من صنع قوى خارجية تسعى لتشويه الحكومة التركية وعرقلة دورها على المستوى الدولي كما يقول اردوغان؟، الأكاديمي التركي تيلان درمش، يرى غير ذلك: “إن ما يقوله اردوغان عن ضلوع قوى خارجية في الأزمة، و”نظرية المؤامرة”، هو غير صحيح، وأن الجانب الأكبر مما تشهده تركيا من أزمة، هو الفساد الداخلي البحت ولا علاقة للقوى خارجية فيه، ولا يمكن أن تخطئه عين”، ويضيف: “لو لم يكن هناك فساد فكيف تفسر أن الملايين من الأتراك يعيشون في حالة فقر وبالكاد يدبرون حاجياتهم اليومية، بينما يحصل شخص مقرب من وزير متنفذ على ملايين الدولارات شهرياً، ليس بسبب الاجتهاد وإنما لقربه من الوزير”، ويرجع درمش في تحليله لأزمة حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه، ويرى أن “الحزب نشأ من تحالف أطياف سياسية مختلفة، لكل منها إيديولوجيته الخاصة، وَحّدها عدو مشترك تمثل حينئذ في “الجيش والعلمانيين”، ونتيجة المكاسب الاقتصادية التي جناها الشركاء داخله من بيع للقطاع العام، قدموا التنازلات الإيديولوجية ونالوا جزءاً من الكعكة الاقتصادية، وبغياب العدو المشترك “الجيش” تضخم الثراء وظهر الفساد، وبدأ التفكك بين أطيافه.
يبدو أن أزمة الفساد ستطول في ظل غياب حلول قادرة على إنهاء حرب السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، التي يؤجج أوارها إصرار الحكومة على إصلاح القضاء والذهاب به إلى أقصى حد، واعتماده في البرلمان، رغم التنديد به معارضة وقضاة، واعتباره “غير دستوري”، وضد مبادئ استقلال القضاء والفصل بين السلطات، لقد انعكست هذه الأزمة السياسية على الاقتصاد التركي وهددته، وهو “فخر” حزب العدالة والتنمية، الذي اعتبره طفرة اقتصادية في مدة قصيرة، “حسب رأيه”، ولكن الحقيقة غير ذلك، ألم تصل الليرة التركية أدنى مستوياتها مقابل الدولار واليورو، ولحقتها البورصة نتيجة الفساد، وبقي مؤشرها الرئيسي عاجزاً عن قلب الاتجاه العام، واردوغان مافتئ يتحدث عن “مؤامرة” خارجية ضد حكومته، حاكتها حركة الداعية غولن التي يتهمها بتشكيل “دولة موازية” لدولته، ولكونها نافذة في القضاء والشرطة، فكان هدفه التشويش على التحقيق في قضية الفساد وتبرئة حزبه والشخصيات المقربة والنافذة في عالم السياسة والأعمال؟
إذا كان شعار “مكافحة الفساد” و”الكف النظيف”، الذي تغنى به اردوغان وحزبه، أوصلاهما في 2001 إلى الحكم، فهل “المفسدة المطلقة” التي يتخبطان بها تستطيع إخراجهما منه؟، يبقى القول الفصل بعد أيام قليلة.
ب – خارجياً:
ما وصلت تركيا إليه من وضع سياسي معقّد وخطير على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية في ظل حكم اردوغان، وبالتوازي مع سياسته الداخلية، وجنون مفكره الطامح” اوغلو”، رفع من منسوب الخلافات المتعددة في كل مكان، وظناً منها أنها تجيد لعبة الأقنعة المتعددة والرقص على الحبال في مواجهة الإعصار الذي اكتسح المنطقة، جهزت أقنعتها للتعاطي مع كل أطرافه: من واشنطن إلى بغداد، واربيل فالأكراد في سورية والعراق وأكرادها، ومع قطر والسعودية و”إخوان” مصر، وروسيا وإيران وأوروبا وغيرهم، وقناع الإرهاب التكفيري “داعش والنصرة” ورديفاتهما من تنظيمات إرهابية أخرى، واستكملت بذلك دورة العداء للمحيط العربي والإقليمي والدولي، وتلبدت المنطقة بغيوم المؤامرات، وأصبحت الصورة أكثر ضبابية، وتعاظمت التعقيدات السياسية، واضمحلت فرص التسويات السياسية، وأصبح من الصعب استشراف مستقبل المنطقة اقتصادياً وامنياً واجتماعياً، في إطار اختبار فرضية فاشلة مسبقاً تقول: بأن التغيير بالعنف سبيل “للاستقرار والرفاه الاقتصادي”، فهل هذا اللهيب المتأجج الذي يلف تركيا من كافة الجهات، يخدمها و ينمي اقتصادها؟
قبيل “الجنون السياسي”، جربت تركيا سياسية التعقل مع الجيران، تجنبت من خلالها المشاكل والتوتر، ورفعت شعار “صفر مشاكل”، فجنت من الندية الكثير جراء فتح الأبواب على مصراعيها لها، “اقتصادياً وسياسياً”، لكن فخ ما يسمى “الربيع العربي” الإعلامي الذي نُصب للعلاقات الدولية، ولخرائط دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اقتصادياً، وسياسياً، وجد فيه الجنون الاردوغاني بحر أحلامه ممتطياً سياسات دول الناتو الغربية العسكرية كموجة نقلته من حالة التعاون مع دول المنطقة، إلى حالة التوتر والصراع، وبهذا التعديل غير المحسوب، قدم نفسه كمخلص وداعم لحركات “التغيير الديمقراطي” المزعوم أو اعتباره كـ ” نموذج إسلامي معتدل” يرتجى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكان المحفز في تماديه السياسي، وصول حركات الإسلام السياسي للحكم في تونس ومصر، واعتقاداً منه بأن هذا يصب في خانة شعاره “الإسلام هو الحل”، وفق تغريدة نشرت على حسابه الرسمي باللغة العربية على موقع ” تويتر”، جاء فيها: ” تركيا لا تتدخل في السياسة الداخلية لأية دولة، ولكنها تعتبر نفسها صوت إخوانها وأصدقائها المظلومين المسحوقين، تساندهم لإيصال صوتهم إلى العالم”.
في الحقيقة، لم تكن سياسة تركيا في المنطقة عموماً ودول الجوار خصوصاً، تسعى إلا في اتجاه استمرار التوتر والصراع للسيطرة وتحقيق حلم “السلطنة العثمانية الجديدة”، الذي دعا إليه أحمد داود اوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي”، وفي حوار له مع الـ “واشنطن بوست”، قال: “على تركيا أن تكون لاعب رئيسي في المنطقة لا بل في السياسة العالمية”، وتعتبر تصريحاته في كانون الأول 2010، هي الأوضح، حيث اعترف صراحة بالدور الذي تطمح أن تلعبه تركيا في منطقة الشرق الأوسط ومحيطها الإقليمي، حيث قال: “إن بريطانيا أسست الكومنولث مع مستعمراتها السابقة، فلماذا لا تكرر تركيا زعامتها في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى”؟، لكن أحلامه وسيده اصطدمت بواقع آخر غير متوقع فرضه صمود سورية وجيشها البطل، لتنتقل تركيا من إستراتيجية ” تصفير مشاكل”، إلى مليون مشكلة معقدة وعصية عن الحل، إن هذا الركض السياسي التركي خلف “الربيع العربي”، سيخلق تداعيات سياسية واقتصادية ضخمة على مستقبلها، في المنطقة وشمال أفريقيا.
ففي مصر: منذ بداية “الربيع العربي” والبوصلة السياسية التركية تزوغ في علاقاتها مع الدول العربية وتحديداً منذ منتصف 2013، فقد تعاطى اردوغان بعد ثورة 30 – حزيران في مصر، كما لو أنها شأن داخلي تركي، أو أن مصر ولاية عثمانية، فأنكر شرعية انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً للجمهورية، وأكد وقوف تركيا مع جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المعزول مرسي، لا بل اعتبر ما حدث في مصر انقلاباً عسكرياً، وجاء بيان خارجيته مؤكداً وقوف تركيا إلى جانب “الشرعية”، أي مرسي والإخوان، وعدّته مصر تدخلاً غير مقبول في شأنها الداخلي ولوحت بأوراق الضغط، مهددة بوقف الاستثمارات التركية وانتقال رؤوس أموالها في مصر، وتجميد سائر أشكال التعاون العسكري بينهما، وإلى ما هنالك من أوراق ضاغطة، قطعت العلاقات بين البلدين وألغيت اتفاقية “الرورو” الموقعة في عهد مرسي، آذار 2012، لنقل البضائع التركية بحراً إلى الخليج العربي المنفذ الوحيد لها، بعد إغلاق حدود سورية والعراق، وبالتالي تم خنقها اقتصادياً، وما حدث في مصر يمثل خسارةً سياسية كبرى للمشروع التركي في الهيمنة على المنطقة وفقدٌ للمصداقية بدورها فيه، باعتبار أن الإخوان في مصر كانوا الحليف الاستراتيجي المكمّل لهذا المشروع لأسباب تاريخية وجيوستراتيجية، وهذا ما يفسر ذلك الردّ العنيف لاردوغان، لأنه يدرك أن عودة الدور المصري لساحة الإقليم يقلل هامش الحركة أمام السياسة الخارجية التركية، التي بنت إستراتيجيتها على غيابه، أو تحويله كتابع لها، وهو ما أفشلته ثورة الثلاثين من حزيران، فكان الرد مناصبة العداء لمصر، ولم يدرك بأن مشروعه الإخواني نعاه أسياده في الغرب، وربيبته المارقة في الشرق مملكة الرمال الوهابية، ألم يحرقوا ورقته الإخوانية “حماس”، لإفقاده ورقة مهمة في إستراتيجيته العقائدية والسياسية، التي تبقيه في الشارع الإسلامي والعربي، تقول شبكة “بلومبرج” الأمريكية في تقرير صادر عنها: “إن اردوغان، يتودد لدول الخليج بعد رهانه الخاطئ في مصر، للحد من الخسائر الاقتصادية لبلاده، بعد أن قطعت مصر علاقاتها بتركيا، وما زال يراهن؟
في سورية، وضعت الأزمة حداً لتصاعد النفوذ التركي في المنطقة الذي بلغ أوجه في العام 2010، ثم بدأ بالانحسار تدريجاً بتآمره عليها، وانخراط أنقرة في الحرب السورية، وتباعاً مع الأزمات المتعددة “من شمال أفريقيا إلى أوكرانيا”، فهل تراجع أنقرة سياستها الرعناء وتتراجع عن الاندفاع الأرعن باتجاه الحلم السلطاني والنموذج الطوراني الذي أوهمها به أسيادها بأنها “النموذج وحامي عرين المسلمين” في المنطقة، أم تنكفئ تماماً داخل حدودها وتحافظ عليها وعلى وحدة أراضيها وكرامة شعبها وحضورها في المنطقة كدولة تسعى لتأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية وتصون كرامتها مسالمة آمنة، أم تبقى تصر على خروجها كحامي عرين، تهدم حدوداً وتُرسم أخرى على أبعاد مذهبية وإثنية، وهي ليست محصنة ضدها؟
يحاول اردوغان اليوم تعويض خسارته المريرة لورقة “الإخوان المسلمين” عبر ورقة أكراد سورية، بالسعي لكسب ودّهم وحشدهم في صفه من جانب، وعلى المقلب الآخر، يقدم الدعم الأشمل للعصابات التكفيرية المقاتلة على الأرض السورية، ومن كل النواحي، حيث يعمل داخل قيادة “داعش والنصرة” خبراء وعناصر من دائرة الحرب الخاصة التركية التي توجّه العمليات العسكرية وخططها، كما حوّل تركيا مقراً وممراً لهم نحو سورية والعراق، وهذا ما أكده مدير الإرهاب في “الانتربول الدولي” بيار سانت هيلير، حيث قال: إن المسلحين الجهاديين كثفوا من دخولهم إلى تركيا عبر الموانئ البحرية، وأن مرفأ ازميت عند الساحل الشرقي من بحر مرمرة تحول إلى البوابة الرئيسية لتدفق المقاتلين الأجانب إلى تركيا، ومنها إلى سورية والعراق”.
مع كل الأحداث التي تعصف بالمنطقة، يبدو الرئيس التركي رجب طيب اردوغان خارج التاريخ، وكأنما الزمن توقّف عنده قبل أكثر من ثلاث سنوات ضد سورية، فقدم كل أنواع الدعم السياسي والمالي والعسكري” بما فيه “الكيماوي” – كتيبة ريح صرصر- واللوجستي لجميع الجماعات المسلحة التي تقاتل في سورية، واستضاف اجتماعات قاداتها وممثليها بغية توحيد قواها للقتال في سورية، ومارس الإرهاب الإعلامي والتجييش الطائفي، وحض على سفك الدم السوري ورصد الأموال الطائلة لإذكاء نار الفتنة الطائفية التي أحرقت الجميع، كل هذا من أجل مطامعه للسيطرة على الغاز والنفط المكتشفين في سورية بالتعاون مع إسرائيل وقطر، ووصلت هذه العلاقة إلى أقصى درجات التوتر، وتم حشد القوات التركية على الحدود السورية لتغطية العمليات الإرهابية من قبل الجماعات المسلحة على كامل حدودها، ألم يكن التعاون السوري مثمر وايجابي مع أنقرة، وكانت سورية الشريان الحيوي للاقتصاد التركي مع دول الخليج، وانتعش من هذا الشريان، يقول سونر جاغايتاي و جميس جيفري في مقال كتباه في صحيفة نيويورك تايمز 17 أيار 2013، وكان بعنوان: هل يستطيع أوباما إنقاذ تركيا من المستنقع السوري؟، جاء فيه: [“إن الحرب على سورية تهدد المكاسب الجمة التي حققها اردوغان لتركيا، حيث لأول مرة في تاريخ تركيا أصبح غالبية المجتمع التركي من الطبقة المتوسطة، وهو الأمر الذي ساعد “العدالة والتنمية” على الفوز بثلاثة انتخابات متتالية منذ عام 2002، وكذلك المستقبل السياسي للسيد اردوغان، وإن ما جنته يداه في سورية يهدد بإنهاء “المعجزة الاقتصادية” التركية”].
في العراق: تعمل مئات الشركات التركية في العراق، و90% من المقاولات في كردستان تذهب لشركات تركية، إضافةً إلى شراء الغاز، وتصدير النفط من حقول كردستان، حيث بلغت العلاقات الاقتصادية بين البلدين 12 مليار دولار، ثمانية منها في كردستان، وهناك 500 شركة تركية للاستثمار، و1800 تركي يعملون في الإقليم”، حسب تصريحات اوغلو أثناء زيارته لبغداد، أليس هذا مهماً لتركيا أن تعوض ما خسرته في المجال الاقتصادي والتبادل التجاري نتيجة رعونتها السياسية مع سورية وغيرها من الدول العربية، وبدل أن تسهم في إنهاء الأزمة الأمنية والاقتتال الدائر على الساحة العراقية، عمدت لتأجيجها، فقضت على الفرص الكبيرة لشركاتها في مجال إعادة الإعمار، وتوريد السلع والبضائع والخدمات.
تدخلت تركيا بثقل كبير في العراق، وقدمت الدعم السخي لتنظيم داعش الذي عاث دماراً وقتلاً وإبادة في العراق، خاصة المنطقة التي تعتبر تركيا حمايتها بسبب “الانتماء المذهبي”، واحتل الموصل التي ما تزال تعتبرها ملكها، جردتها اتفاقية “سايكس بيكو”- منها حسب زعمها- ، وقاتل الأكراد في شمال العراق واحتل أجزاء من مناطقهم بمباركة تركية، كل هذا بفضل التخبط السياسي التركي الذي تسبب بخسائر كبيرة لها، سياسياً واقتصادياً، فأحرقت ورقتها القوية “عشائر شمال العراق”، التي كانت تعدها بعداً مهماً من أبعاد سياستها في العراق، وضم الأكراد كركوك إلى حكمهم الذاتي، وهي التي تَعتبره خطاً أحمرا، وأُجبرت بضغط أمريكي للسماح لقوات “البشمركة” في العراق بالدخول عبر أراضيها لنصرة أخوتهم الأكراد في عين العرب السورية بعد أن احتلها “داعش”، فالتفّ الأكراد حول قضيتهم متناسين خلافاتهم المتشعبة، بما فيه “حزب العمال الكردستاني” و”حزب الاتحاد الديمقراطي”، الذين تعتبرهما “أنقرة” حزبين إرهابيين، فتوحد الأكراد ككيان على حدودها، وهذا ما حاربت ضده منذ عقود، وأجبرت للوقوف معه بضغط دولي من أجل محاربة داعش، فوجدت نفسها في خندق واحد مع حزب تصنّفه إرهابياً وتقاتله منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لقد فشلت سياسة أنقرة ورئيسها “الملهم العتيد” في العراق، فخسرت ثاني أكبر شريك تجارى لها من حيث الصادرات، فهل يتلمس ما جنته يداه؟
تونس وليبيا: وقف حزب “العدالة والتنمية” إلـى جانب حزب النهضة التونسي، وقدم له الدعم القوي في مجال تقنيات الحملة الانتخابية، ولم يبخل الإعلام الاردوغاني في تقديم الدعاية والإعلان والحديث عن “نضج التجربة الديمقراطية التونسية”، معتبراً ذلك “انتصاراً لمشروع الربيع العربي”، فالغنوشي حليف مهم بالنسبة لاردوغان، وحزب “النهضة” من أكثر الأحزاب الإسلامية قرّباً لحزبه، لا بل توأمه الروحي، لقد سقط “الحلم الاردوغاني” بسقوط الغنوشي وحكمه الإسلامي في الانتخابات النيابية، وأبعدت أنقرة عن تونس.
لم تسلم ليبيا من لهيب الجنون الاردوغاني ونهجه الإخواني، فاكتوت هي الأخرى من هذا اللهيب، ولمّا يزل إواره مستعراً فيها إلى يومنا هذا، ونالت تركيا خسارة كبرى جراء ذلك الجنون ما قُدّرت قيمته بـ /25/ مليار دولار، كمشاريع لها في ليبيا وطرد لعمالها من هناك، وصح القول: “من يلعب بالنار تلقى الحريق أصابعه”.
الخليج: لا يخفى على أحد أن مهلكة الرمال الوهابية وزبانيتها لن يسمحوا بأي دور ريادي إخواني لأنقرة في المنطقة، وتركيا تريد أن تكون صاحبة القول الفصل في مستقبل سورية، وما قبولها “التدريب” إلا تأكيداً على هذا المطلب، وآل سعود يدركون خطورته عليهم فعززوا وجودهم وحضورهم لدى العصابات المسلحة بصفقة أسلحة من واشنطن بقيمة ١,٢ مليار دولار ليقولوا لتركيا أنهم هنا، فردت بإعادة انتخاب أحمد طعمة، “التركماني الأصل”، رئيساً لما يسمى “الحكومة السورية المؤقتة”، وكان الرد بمنزلة الهزيمة الدبلوماسية للسعودية وأنصارها، وتأجج السجال السياسي والخلاف الكبير بينهما حول الدور الإقليمي في المنطقة، وقُطع الدعم المالي “الأحمر” السخي عن تركيا، ما أثر على الاقتصاد التركي بشكل مباشر، وردت دولة الإمارات العربية المتحدة في مسألة الإخوان على تركيا، فقررت القيام بتطوير مطار “بلغراد” في صربيا بهدف القضاء علي مركزية اسطنبول، وعزلت تركيا بعد أن ترنح الحليف الوحيد لها، أمير قطر الجديد في أحضان آل سعود، وغزل اليوم ” حلفاء الضرورة”، فهل هذه السيناريوهات تخدم تركيا اقتصادياً وسياسياً ؟
واشنطن: لم تكن العلاقة التركية الأمريكية جيدة بأحسن الأحوال، فالصراع محتدم بينهما نتيجة المواقف السياسية المتقلبة لاردوغان وطموحه الفردي، الذي يتعارض مع مصالح ودور أمريكا في المنطقة، وخصوصاً فيما يتعلق بالدور الأمريكي في مصر وسورية، والتعاون الأمريكي السعودي لخدمة مصالحهما في المنطقة، فأسقطوا له حليفه القوي مرسي، بتخطيط سعودي ومباركة أمريكية لضرب مشروعه الإخواني، والعلاقة السعودية التركية تشوبها خلافات عقائدية ما بين “الإخوانية والوهابية”، وكل منهما يريد فرض وجوده الريادي في المنطقة، وأمريكا تريد منهما التكامل والتعاون لإنجاح مشروعها في المنطقة، وصعّدت أنقرة لهجتها تجاه واشنطن بعد أن أعلنت الأخيرة نيتها تدريب 5 آلاف عنصر من “الجماعات الإرهابية” المقاتلة في سورية، بقواعد عسكرية سعودية، وتلاه تصعيدٌ آخر بعد تصريحات جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، التي حمّلت تركيا مسؤولية ولادة تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة” والجماعات الإرهابية الأخرى، وتجلى هذا التصعيد في إصرارها لضرورة إقامة منطقة عازلة وحظر جوي في الشمال السوري، لإقناع واشنطن بصحة تقييمها للأمور ودفعها للتنسيق معها، ثم لفقت تهمة للرئيس الأسد، بأنه كان وراء مظاهرات ساحة التقسيم، وهذا ما أزعج أمريكا كونها الآمر الناهي لما يحدث، يضاف لهذا، رفض أنقرة في البداية طلب واشنطن منها السماح لقوات البشمركة الكردية المرور عبر أراضيها لمحاربة “داعش” في مدينة عين العرب السورية، وتأتي المسألة الخلافية الأخرى بينهما، تلك الشروط التي وضعها اردوغان للدخول في “التحالف الدولي” لضرب داعش، وتأتي اتهامات تل أبيب لتركيا، بتدريب وتسليح عناصر “حماس” ضدها للقيام بـ “أعمال إرهابية” لتضع اردوغان أمام وضع صعب في علاقته مع واشنطن واللوبي اليهودي، والغريب أن أمريكا أسقطت الإخوان، ومازال يصرّ على إعادة بناء هذه المنظومة الإخوانية، فهل هذا يخرج تركيا من اللعبة الدولية في المنطقة؟
داعش
بعد أن أدرك اردوغان فشله وفشل مشروعه الإخواني في المنطقة، موّل تنظيم “داعش” وسلحه وقدم له الدعم اللوجستي لاجتياح شمال العراق والشمال الشرقي لسورية، ورأت أنقرة في هذا التنظيم فرصة ثمينة لتحقيق الكثير من مشاريعها الإقليمية، خصوصاً في ظل ما بدا أنه علاقة “عضوية” ما بينه وبين تاريخ تركيا وجغرافيتها العثمانية، فالحلم المشترك في “الإمبراطورية الإسلامية”، الذي عجزت تركيا عن تحقيقه، وكان الحل عندها بـ “داعش”، قوته وقدمت الدعم له ومنحته حرية الحركة والانتشار على أرضها، رغم تصنيفه العالمي كتنظيم إرهابي، وفعلاً كان هذا، فمن أراضيها دخل بعض عناصره عين العرب، وأصبحت تواجه أخطر تحد لها منذ عقود، وهذا التمدد لن يقتصر على شن هجمات من داخل أراضيها أو على مصالحها الإقليمية فحسب، وإنما قد يخلق مشاكل واضطرابات تهدد استقرارها الداخلي، فالحاضن الشعبي له موجود بفضل ثقافة “أبي لهب” الاردوغانية، ولو أن اردوغان قرأ ما حدث في باكستان لكان تعلم الكثير مما دار بين مخابراتها وطالبان التي دعمتها لسنوات، وكيف انقلب السحر على الساحر، ولكن يبقى أنفع القول: “الولد ولد ولو عمر بلد”.
إيران: لو أن السياسة الاردوغانية فكرت ولو للحظة واحدة بعقلانية، لأدركت كم هي طائشة ومسعورة، خاصة بعد التحالف الإسرائيلي الخليجي ضد إيران أولاً، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة ثانياً، ولو أن السياسة الاردوغانية في لحظة استيقاظها تلك، تمكنت من بناء إستراتيجية جديدة لسياستها الخارجية تساعد في إصلاح صورتها وصورة حزبها “العدالة والتنمية”، لكان في مقدورها أن تخلق لتركيا دوراً محورياً في الشرق الأوسط من خلال إقامة علاقة جيدة مع إيران، فكلا البلدين يستطيعان الاستفادة من تحالف قوي بينهما، فتركيا بأمس الحاجة لمساعدةٍ إيرانية في العراق بعد الصورة القاتمة لها هناك، وإيران قادرة على أن تساعد خاصة بعد اللهيب المستعر على الحدود العراقية السورية التركية، وأيضا تركيا في أمس الحاجة للمساعدة إيران بخصوص القضية السورية، ناهيك عن الحاجة للنفط الإيراني وسوق التبادل التجاري، وتقليص الدور السعودي المنافس لهما.
لقد أصبحت مصداقية تركيا على المحك، وعلاقتها مع إيران مرهونة بمدى الموقف من الأزمة السورية وعدم العرقلة، وربما همش الدور التركي في المنطقة بعد فشله في سورية ومصر، أو أنه تغير، ولهذا ذهبت أمريكا إلى إيران وفاوضتها.
روسيا: تستورد تركيا نحو55% من الغاز الطبيعي و12% من نفط روسيا، وهي تساعد تركيا على بناء أول محطة نووية لها، ويدرك اردوغان بأن نمو بلاده الاقتصادي وحظوظه السياسية تعتمد في الحفاظ على إمدادات النفط والغاز المنتظمة من روسيا، وأن التدفق الكبير للسياح الروس والاستثمارات والصادرات والإنشاءات التركية وصفقات العقود الأخرى مع روسيا حسنت الاقتصاد التركي وساعدت في نموه، والعاقل من يحافظ على المكاسب لا أن يهدرها، كما يفعل اردوغان من هدر لما تقدمه روسيا لأنقرة، ألم تمنح اتفاقية مونترو، بين روسيا وتركيا لعام 1936، تركيا بعض المزايا، وأتاحت لها عسكرة المضايق وإدارة الحركة الملاحية داخل المضايق وخارجها، فلماذا انقلب عليها اردوغان وسهّل لأمريكا “عدوة روسيا” تحركاتها البحرية والجوية في البحر الأسود ومنطقة القوقاز وأصبحت قواتها تهدد أمن روسيا، مع أن الاتفاقية تضع قيوداً على الحقوق الملاحية لأساطيل الدول غير المتشاطئة للبحر، أليس هذا بمثابة الانتحار السياسي وخنق للاقتصاد التركي الذي ساهمت في إنعاشه روسيا؟، وتأتي موافقته على نصب الدرع الصاروخي الأمريكي ضد روسيا في 2010 على أراضيه اعتراف منه باستبدال العرفان بالأذية، وهل التصريحات التي أطلقها حول أوكرانيا وجزيرة القرم تصب في مصلحة روسيا أم ضدها، أم أن مواقفه الجائرة من سورية الحليف التاريخي لروسيا، يقربه من روسيا ويخدم مصالحه؟
في زيارته الأخيرة لتركيا بداية العام الحالي، طرح بوتن تحويل خط “السيل الجنوبي” الذي يمر في بلغاريا ويصل إلى أوروبا، أن يتحول إلى تركيا، وبالتالي ستكون تركيا الجسر الذي يتم من خلاله عبور الغاز الطبيعي إلى أوروبا، مما يمنحها خريطة معقدة من شبكات الأنابيب لنقل الطاقة التي تستولد خريطة جديدة هامة من العلاقات الدولية، وتكون الجغرافيا قد قَدَّرتِ أن يكون لروسيا وتركيا دور كبير في تكوين هذه الشبكات الاقتصادية والسياسية، فلماذا لا يعمل اردوغان لتكامل الدورين وتأسيس علاقة جديدة بين روسيا وتركيا محورها الطاقة وأنابيبها؟، وتكون تركيا بمثابة اللاعب الثابت الذي لا يتغير في لعبة الطاقة، ومهما تكن العلاقات السياسية والاقتصادية مع أوروبا مهمة بالنسبة لتركيا، فروسيا جار قوي وقادر لا استغناء عنه، ومع هذا فالاتحاد الأوروبي يريد جر تركيا إليه، لفرض عقوبات على روسيا، فهل يعتبر هذا نهج واقعي لاردوغان إذا جرته رعونته وطيشه السياسي نحو أوروبا؟، فإذا كانت تركيا ترغب في أن تكون عضو بالاتحاد الأوروبي وتحقق نزوتها، فمن الغباء القاتل أن تكون طرفاً في التآمر على روسيا.
أوروبياً: إذا كانت تركيا ترغب منذ نصف قرن في أن تكون عضوا بالاتحاد الأوروبي لما يقدم لها من دعم اقتصادي وسياسي- حسب رأيها -، فهل تصريحات اردوغان تصب في هذا المنحى؟، أم أنه جنون العظمة؟، ففي مقال له في صحيفة “نيوزويك” الأميركية، توقف فيه عند العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي موضحاً:
- لا بديل عن تركيا لدى أوروبا، خصوصاً أن توازن القوى في النظام العالمي يشهد تحولاً، والاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تركيا ليصبح أقوى وأغنى وأكثر شمولية وأمناً.
- هل قوة تركيا تقف عائقاً أمام دخولها إلى الاتحاد الأوروبي؟، وإذا كان الأمر صحيحاً، فلا بد من التساؤل بشأن الحسابات الإستراتيجية الأوروبية، على أصدقائنا الأوروبيين أن يعوا أن العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي تقترب بسرعة من نقطة تحول”.
– لم نعد بلداً ينتظر على باب الاتحاد الأوروبي كمتوسل وديع”، وبلادنا تترك أثراً على الساحة العالمية بتطورها الاقتصادي المثير للإعجاب واستقرارها السياسي.
– اقتصادنا هو الأسرع نمواً في أوروبا، وتركيا سوق للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتركيا أصبحت لاعباً إقليمياً ودولياً، وهي تعيد اكتشاف جوارها الذي غضّت الطرف عنه طوال عقود.
ويأتي تحذيره للسفراء الأجانب خاصة “أوروبا وأمريكا”، بإبعادهم لقيامهم بعمليات “تحريض واستفزاز ومكائد”، على خلفية فضيحة الفساد، وحرية الصحافة والإعلام.
لم يطرأ تطوّر كبير على العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا منذ عام 2004، لأن دول الاتحاد أرادت اردوغان تابعاً ومنفذاً لأجندتها السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ولكن بعد فشله في المشروع المسند إليه تغيرت العلاقات، ويأتي إقرار اوغلو رئيس الوزراء التركي: [” بأن هناك تحولاً في صورة تركيا لدى الغرب، إذ أصبحت هذه الصورة سلبية بعد أن كانت تركيا “نموذجاً اقتصادياً وسياسياً” ناجحاً بالنسبة للغرب، ومنذ فترة تحول الرئيس اردوغان بنظر الغرب إلى ديكتاتور يريد الإطباق على كل السلطات، بعدما كان يتصدر الصحف الغربية كشخصية سياسية ناجحة”]
ألم تربح تركيا بعلاقاتها التجارية مع دول منطقة الشرق الأوسط؟، فزاد حجم التبادل التجاري معها خلال العشر سنوات الماضية؟، وارتفعت واردات السياحة التركيّة، وزاد حجم الصّادرات من 11% في 2001 إلى 35 % عام 2013، بينما حجم الصّادرات التركية إلى الاتحاد الأوروبي 60% في تلك الفترة، تراجع إلى 40%، بعد هذا كله، يمكننا القول: ارتهن للأجندة السياسية الغربية فلم يربح الغرب، لكنه خسر الشرق، فخسر السياسة والاقتصاد.
النتيجة: كان القصد من هذا العرض أن أوضح كمقدمة لمستقبل الاقتصاد التركي في ظل السياسة الاردوغانية وانعكاساتها عليه، هذا الاقتصاد الذي انخرط الكثير من الإعلاميين والساسة والمنتفعين والمأجورين والمنخرطين في المشروع الأمريكي الصهيوني الرجعي العربي للمنطقة، للتطبيل له وللدور التركي “الإسلاموي المعتدل”، الذي يكمن فيه الحل السحري لداء المنطقة، حسب رأيهم، ولكنه في الحقيقة ما هو إلا فقاعة وهمية ظهرت على سطح مشروع التقسيم والهيمنة الاستعمارية “الصهيوأمريكي” للمنطقة، تنفذه أدواته العميلة من مرتزقة إسلاموية، يمازجها عمالة رجعية عربية وحكام دول وظيفية خدمة لهذا المشروع.
حبذا لو قرأ اردوغان الواقع بعقلانية، لكان أدرك أن هناك مساحة كبيرة بين” الرغبة والقدرة”، وأن هناك خطوطاً حمراً وبروز عالم جديد ووقائع جديدة تُرسم على الواقع، رغم أنها مؤلمة أحياناً، وأن الصراعات منهكة جداً وبديلها التسويات والاتفاق والتوافق، والتشبيك قادم إلى المنطقة، لكنه لم يقرأ، وفضل الإشتباك على التشابك، وذهبت سياسته الشرق أوسطية على غير هدى، وأدت الاضطرابات التي أججها في أنحاء المنطقة إلى الخصم من حضور تركيا وحرق تطلعاتها الاقتصادية، فهل يحدد هذا مستقبل اردوغان السياسي؟ ويكون هذا اختباراً لتركيا ومصيرها الاقتصادي المنعكس عن سياسة الطيش لواليها، سلطان الباب العالي؟
المصادر:
http://studies.aljazeera.net/issues/2012/10/20121016111018502194.htm
http://studies.aljazeera.net/positionestimate/2014/03/201436154217329133.htm http://pukmedia.com/AR_Direje.aspx?Jimare=25473
http://www.al-akhbar.com/node/218883
http://www.al-akhbar.com/node/218064
http://akhbarturkiya.com/?p=45380
http://www.al-akhbar.com/node/2086
العلاقة بين الاقتصاد والسياسة علاقة وثيقة، فالاقتصاد القوي يوجد استقراراً سياسياً واجتماعياً، في حين أن الاقتصاد الضعيف يولد مشكلات كثيرة، كما أن السياسة الرشيدة والحكيمة تخلق اقتصاداً قوياً ومناخاً مناسباً للنمو الاقتصادي، وكلما كان هناك استقرار سياسي كان هناك ازدهار ونمو اقتصادي، والعكس صحيح. ولعل الكثير من الصراعات السياسية كانت خلفياتها مصالح اقتصادية، ولكن عندما يكون الفاعل السياسي فاعلاً اقتصادياً في نفس الوقت، فإن العلاقة بينهما تزداد تعقيداً والتباساً، وفي مثل هذه الحالة تتم الإساءة للاقتصاد والسياسة معاً، فلا الاقتصاد يمكن أن يتطور في بيئة تنعدم فيها شروط المنافسة الاقتصادية، ولا السياسة يمكن أن تتطور بسبب هيمنة المال على الشأن السياسي، ولكم أفتى الكثير من الفقهاء بـ “عدم جواز الجمع بين الإمارة والتجارة”.
ويمكن للباحثين أن يفسّروا سلوك الدول من العوامل الاقتصادية، فالدول تستجيبُ للأحداث الآتية من البيئة الخارجية بناءً على موقعها في النظام الاقتصادي، وغالباً ما تلعب تلك العوامل دوراً مركزياً في خيارات السياسة الخارجية، لأن تنفيذ السياسات يتطلَّبُ توافر الموارد الاقتصادية، ويحدِّد توافر تلك الموارد ما إذا كانت هذه الدولة مانحة للمعونة أم مستقبلة لها، كذلك تحدِّد قدرة الدولة المستقبلية، كالمشاريع الضخمة والتبادل التجاري، أو تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، علماً أن توزيع الموارد في النَّسق الدولي لا يحدِّد السياسات المتبعة، بل يضع حدوداً على مدى بدائل السياسة الخارجية المتاحة، فالدول التي تُعاني من نُدرة الموارد لن تستطيع، ولو أرادت ذلك، أن تلعَب دور الدولة الكبرى، ولا يعني هذا أن توافر الموارد يضمن لها أن تلعَب هذا الدور، ولو أردنا المقارنة بين الأثر النسبي للعوامل الاقتصادية والعوامل السياسية – الأمنية – على السياسة الخارجية، فإننا سنجد أنه من الصعب الفصل بين هاتين المجموعتين، لأن الأدوات الاقتصادية عادة ما تستَخدم لتحقيق أهداف سياسية وأمنية.
وبالرغم من أن الأمن الوطني هو العامل الأول المحرِّك للعديد من التصرفات الاقتصادية، فإن الكثير من السياسات التي تُبرَّر على أساس الأمن الوطني، إنما هي سياسات تحركها المصالح الاقتصادية، وإن بدا أن الغاية ليس تحقيق الربح أو المنفعة، فالدول تسعى عادة لتبرير سياساتِها على أنها تحقّق مصالح أمنها الوطني، بغض النظر عن الدوافع الحقيقية لتلك السياسات.
إن حدوث تغيّر في السياسة وانتقال النظام السياسي من ناحية للأخرى، “كما حدث في تركيا”، يضيف قدراً كبيراً من عدم اليقين – أي فارق التحول في القرارات “سياسياً أو اقتصادياً” بين الحكم القديم والجديد- فيما يتعلق باتخاذ القرارات الاستثمارية، فالحكومة التركية أصبحت بمثابة الوكيل الاقتصادي للقرارات الاستثمارية، ومن أمثلة ذلك: [” القمع الحكومي والتفرد بالقرار السياسي والفساد الحكومي، وانتهاك حقوق الإنسان وإساءة استعمال أو سوء استخدام الموارد لتلبية مطالب جماعات المصالح التي تؤثر على الاستثمار والنمو الاقتصادي، ناهيك عن الاضطرابات السياسية الداخلية والخارجية التي أججها الغرور والتفرد والحلم الاردوغاني “سلطان الباب العالي” أو “العثمانية الجديدة”]، ولكي ندخل في صلب موضوع البحث، لابد من دراسته بفرعيه السياسي والاقتصادي كل على حدة، ومن ثم ربطهما ببعض لأن كل منهما يكمل الآخر، يؤثر فيه ويتأثر به.
1- على الصعيد السياسي:
كي تكون الدراسة دقيقة على هذا الصعيد، كان لابد من دراسته على مستويين: داخلي وخارجي، وانعكاسهما على الاقتصاد التركي في ظل سياسة اردوغان وحزبه الحاكم “العدالة والتنمية”.
آ- داخلياً: “كل صوت مختلف وصاحب رأي معارض هو إعاقة لتقدم تركيا، وتجب محاربته”، هذا الشعار الذي اعتمده رجب طيب اردوغان، وبنى عليه خططه ومن خلالها يعمل، فلاحق وعزل ونقل وهمش وعزز، لاحق الأطراف التي وقفت وراء كشف العديد من ملفات الفساد المتغلغل في نظامه، والمتورط فيه شخصياً، وكسر شوكة العلمانيين الأقوياء، وروّض الجيش التركي وجنرالاته الاتاتوركيين، وأقصى “الغولينيين”- جماعة صديقه اللدود عبد الله غولن، الذي كان السند القوي “اقتصادياً وسياسياً” له حتى الأمس القريب- وفكّك شبكتهم المتجذرة في الإدارة والشرطة والقضاء وضرب الُبنى التحتية الداعمة لها، وحارب رجال المال والأعمال حتى دانت له السيطرة عليهم تماماً، أو كاد، خاصة مع وصول الطبقة البرجوازية الجديدة “نمور الأناضول” ذوي النشأة الخفية والتوجه الإسلامي – التي بدأت رحلة صعودها معه – إلى مراكز الحكم والإدارة والاقتصاد وأصبح لها الكلمة العليا في إدارة شؤون البلاد، قاتل رجب طيب اردوغان في الساحة الداخلية بشراسة قلّ نظيرها ليعزز سيطرته شبه الكاملة على السلطتين التشريعية والقضائية، وعقد اجتماعات هيئة المستشارين حول قيام النظام الرئاسي عام 2015، دون إصلاحات دستورية وقانونية تجيز له ذلك، محاولاً نقل صلاحيات رئيس الوزراء إلى مقر إقامته في “القصر الأبيض” الجديد كرئيس دولة، فهل هذا ينبئ بظهور زعيم سلطوي في دولة “ديمقراطية”، كما يُطّبل لها؟، أم ينبئ باحتمالات تفجر الأوضاع السياسية في “الدولة العلية”؟
على صعيد النسيج الاجتماعي الداخلي: لا تزال منظومة حكم اردوغان تمارس “الانتهازية السياسية” بعلاقاتها الشبه جيدة نسبياً مع أكرادها، فهي تراهن على الصوت الانتخابي الكردي من خلال عملية السلام بينها وبين حزب العمال، من جهة، وبالمقابل، لا زال اردوغان يصر ويؤكد على أن حزب العمال الكردستاني ليس أقل تطرفاً من تنظيم “داعش”، من جهة أخرى، فهل هذا الازدواج والانتهازية يدلان على سلامة الرؤية السياسية، أم هو إفساد لتلك العلاقة الشبه جيدة نسبياً، مضاف إليه، معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، واستفزاز مشاعرهم بمواقفه من أحداث عين العرب السورية، التي غالبية سكانها من الأكراد، وموقفه الداعم لـ “داعش” ضدهم أيضاً، علاوة عن تنامي حدة الاستقطاب الداخلي على أسس مذهبية طائفية وعرقية وإيديولوجية مع فئات أخرى لها ثقلها الاجتماعي، واتهامها علانية بالعمالة للخارج من قبل اردوغان شخصياً بسبب الانتماء الطائفي وحرمانها من أبسط حقوقها الدينية والسياسية- 81 محافظة، جميع محافظيها من طائفته-، وإصراره على فرض القيم السُنية المحافظة على المجتمع التركي عامة، والعمل على زيادة تَديُّن الأجيال، إلى درجة ضج الأهل من إجبار أولادهم على الالتحاق بمدارس الإمامة والخطابة؟، وكانت الحجة عدم توفر المقاعد في المدارس العامة العلمانية لاستيعابهم، إضافة لإعلانه أمام الملأ أنّ المساواة بين الجنسين “تتعارض مع الطبيعة البشرية”، وإدانته للإجهاض علناً، مما جعل تركيا في المرتبة 125دولياً، بحسب التقرير العالمي لعدم المساواة بين الجنسين، ضمن قائمة ضمت 142 دولة.
إن هذا التمظهر في الدين والتشدد فيه، ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل والخارجي أيضاً، نجح أردوغان في ركوب موجته، ليقود من خلاله مشروع الفتنة في المنطقة، الهادف لتحويل الجمهوريات العسكرية إلى جمهوريات إسلامية، لا بل سلفية تكفيرية، وساعده في ذلك تركيز الغرب على مشروعه الإسلاموي وتقديمه بوجه جميل. ومسرحية “دافوس” بين اردوغان وبيريز، خير دليل، وبناء عليه أصبحت تركيا الحامل له، وتحول الشارع التركي إلى شبه إسلاموي، فالمؤيدون للتنظيمات المتطرفة كثر، والمحلات التي تبيع شعاراتهم منتشرة بشكل علني، حيث يمكنك شراء سترة أو قلادة عليها شعارهم بسهولة، فهل هذا يخدم تركيا ويبشرها بمستقبل مستقر وآمن؟، أم أن هذه المظاهر تشير بوضوح لموجة من الإرهاب والاحتجاج؟، خصوصاً بعد تحول الشريط الحدودي مع سورية إلى حواضن شعبية داعمة لهذه التنظيمات المتطرفة، أليست عملية القبض على المجموعة الجهادية “التحشية” التركية المرتبطة بتنظيم القاعدة، أول الغيث؟، إضافة لتنامي أعداد الأتراك المقاتلين في صفوف – “داعش” و “النصرة”- الإرهابيتين في سورية والعراق، فهل هذا يخدم الاقتصاد التركي وتركيا؟
– على الصعيد الحزبي: ربما تكون العلاقات القوية بين اردوغان زعيم الحزب الفعلي وأحمد داود اوغلو الزعيم الجديد للحزب، والعناصر الفاعلة داخل الحزب، أحد العوامل التي ساهمت في تماسك الحزب، رغم التأثيرات التي قد تنتج بفعل خروج اردوغان من الحزب- كونه يمثل 70% من قوة الحزب- حسب المحللين السياسيين- لما يمتلكه من كاريزما وحنكة خطابية، والمقتضيات القانونية لمنصبه الجديد كرئيس للدولة، والتبعات السياسية التي ورّثها لحزبه قد تجعل الحزب ينوء بحمله الثقيل، لما فيه من منغصات وتحولات، وهو على أبواب الانتخابات البرلمانية القادمة، ومن هذه التبعات: أن حوالي 72 من نواب الحزب سيتركون مقاعدهم لاستمرارهم ثلاث دورات برلمانية متتالية، ولائحة الحزب الداخلية لا تجيز خوض الانتخابات أكثر من ذلك، فهل يشكلون حزباً جديداً ويكون الانشقاق؟، كون معظمهم مؤسسون، واوغلو طارئ عليهم لا يقبلون قيادته؟، إضافة للخروج غير المشرف لرئيس الجمهورية السابق عبد اللـه غول من الحكم، وغدر توأمه السياسي – اردوغان- به، وانعكاس هذا على مواليه الذين لن يُسمح بترشحهم، مضاف إليهم أسماء جماعة الخدمة- غولن، والمقربين منه، وماذا عن نوابه الذين لم يساندوه داخل البرلمان بفضائح الفساد والرشوة التي طالته ورجاله؟، والوزراء الأربعة المتهمين بالفساد، ويبقى التحدي الحقيقي المحتمل مواجهته، أن ينضم غول، كردة فعل، لأحد الأحزاب السياسية التي تشكلت قريباً، خاصة أن إحداها قريب منه، أو البقاء داخل الحزب وتشكيل تيار فيه مناهض له، ويكون” التصدع”، فـ “غول” له ثقل سياسي في الحزب والناس، فهو الأول في : “رئاسة الحزب، ورئاسة الوزراء ورئيس الدولة عن الحزب”.
إن التداعيات السلبية للنزعة الفردية والتسلطية لاردوغان أضحت تمتد إلى صفوف حزبه، حيث أن 29% من أعضاء الحزب ضد سياسته، والبعض منهم يعتبر أن الحزب بات يفتقد للديمقراطية بسبب الإرادة المتفردة المتغطرسة والمتحكمة بأموره، إضافة لسوء إدارة الحكومة في التعامل مع المحتجين في ساحة التقسيم، التي فضلت العنف غير المبرر على الحوار معهم وإقناعهم أو الاقتناع بمبرراتهم، وزاد الطين بلّة، تصريحات اردوغان متهماً فيها المحتجين “باللصوص” الذين ينفذون مؤامرة مدفوعة من قبل بعض الأحزاب الداخلية وبعض القوى الخارجية، علماً أن من نزل إلى الشارع بهذا الحجم هم ذو سوية معينة وطبقة نخبوية “طلبة جامعات- أطباء – محامين،….إلخ”، ورغم هذا، فالغرور وجنون العظمة دفعا بإدارة الأزمة على نحو مختلف، فكان الرقص على “حافة الهاوية”.
على الصعيد المؤسساتي: عمل رجب طيب اردوغان جاهداً لإبعاد المؤسسة العسكرية عن العملية السياسية، مبرراً ذلك بتلبية معايير العضوية الأوربية، ونجح في ذلك، ثم أكمل هذه العملية بتعديلات قانونية، ضَمِن من خلالها، عدم وجود أي دور لهذه المؤسسة في التأثير على مسار العملية السياسية، وعدم التدخل فيها بحجة حفظ الأمن واستقرار البلاد، فبات “عهد الانقلابات العسـكريـة” في ذمـة التاريخ، وأصبح الجيش خلف القضبان، وتمكن من نقل تبعية “قيادة الأمن العام” من رئاسة الأركان إلى وزارة الداخلية، لتتحول إلى مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيش، وصار بإمكانه محاكمة العسكريين الذين في الخدمة أمام محاكم مدنية، وسيطر سيطرة شبه كاملة على المؤسسة البرلمانية والقضائية والداخلية بعد أن عزل جماعة غولن منها، بتعديلات متلاحقة سمحت لحزب العدالة أن يكون له اليد العليا في اختيار أغلب عناصر مجلس القضاء الأعلى، وعين بشكل علني 144 عضواً في مجلس القضاء و33 عضواً في مجلس الدولة، وأصبح مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة مرتبطين فعلياً برئيس الجمهورية، ويأتي أخطر القوانين القضائية التي أسفر عنها، تشريع “الاشتباه المعقول”، وبموجبه يمكنه اعتقال أي شخص بقرار من المحكمة ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة وحقوقه وودائعه، ويبقى الأخطر لما يهدف إليه الحزب، هو السيطرة شبه الكاملة على مؤسسات أجهزة الأمن التركية، بحجة مواجهة المؤامرات التي تحاك ضد استقرار تركيا، والقضاء على ما أسماه “الكيان الموازي”، أي جماعة غولن، وأصبح مجلس الأمن الوطني تابعاً لمجلس الوزراء يخبره بآرائه ثم ينتظر ما يسند إليه من مهام لتنفيذها ومتابعتها، بعد أن نجح بتعديل المادة الرابعة من الدستور، كما شملت التعديلات طبيعة قرارات مجلس الأمن الوطني، فتم إلغاء نص “يراعي مجلس الوزراء قرارات المجلس بعين الاعتبار الأولى”، وأصبح النص، “يقوم مجلس الوزراء بتقييم قرارات مجلس الأمن الوطني”.
بدوره لم يسلم الإعلام منه، فكمَّ الأفواه ومارس الخنق المنظم للحريات، ونالت تركيا بفضله المرتبة الأولى في العالم بنسبة عدد الصحفيين والكتاب المسجونين، إضافة لشراء الصحفيين ودور النشر وخنق الحريات، ووجهت العديد من التقارير الدولية انتقادات لحكومته بسبب تراجع حرية الصحافة، وباتت الحكومة تشكل كابوساً بالنسبة للدولة والإعلام، وحتى “عبد القادر سيلفي”، الكاتب في صحيفة ” يني شفق” المعروف بقربه من اردوغان وأحمد داود اوغلو، والذي يمرران عبره ما يريدان من تسريبات ومعلومات خاصة إلى الرأي العام، رفع صوته معترضاً على العملية البوليسية التي حصلت 14/12/2014، وطالت أكثر من 31 شخصاً معظمهم من الصحافيين، ومعدي البرامج والمسلسلات، كأمثال، “دومانلي و هدايت قرة جه” ، ولكن الأغرب كان، رد اردوغان على الانتقادات المتواصلة ضده وضد حكومته أثناء اجتماع السفراء الأجانب المعتمدين في تركيا بـ 5 كانون الثاني 2015، حيث قال: ” أقولها بتحدٍ، ليس هناك حرية في الإعلام لا في أوروبا ولا في الدول الغربية الأخرى مثلما لدينا هنا في تركيا”، فإذا كان هذا صحيحاً!، لماذا تغرق القنوات المعارضة بالعقوبات المالية الباهظة؟، رغم أنها الأولى من حيث المشاهدة، أليس لأنها لا تواليه وحكومته، بينما الموالية ترفل بملايين الليرات من شركات القطاع العام التركية خلال عام 2014؟ ويأتي التفسير من أحد أعضاء المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون التركي، أسعد تشيبلاك: ” هذه العقوبات بسبب عرضها أخباراً حول اللجنة البرلمانية لتقصي الحقائق بشأن أعمال الفساد والرشوة”، ولكن ألم يكن هذا منشوراً في الصحف”؟
البطالة
مطلع عام 2014، قامت حكومة اردوغان بتغيير الطريقة الإحصائية في تركيا، ففي مقال نشره الموقع الالكتروني لجريدة زمان التركية بتاريخ 6 آذار 2015، للكاتب محمد تشتينجولتش، قال فيه: لقد تم إخفاء عدد العاطلين وفق الطرق الإحصائية المختلفة في عام2014، لكنه بلغ نحو 400 ألف عاطل عن العمل، ولو لم تتغير طريقة الإحصاء لوصل العدد الرسمي إلى 3 ملايين و500 ألف شخص، ولو أضفنا عدد اليائسين الذين فقدوا الأمل في العثور على عمل إلى العاطلين عن العمل، لتبين أن العدد الحقيقي 5 ملايين و 600 ألف، كما أعدّ البروفسور الدكتور خورشيد جونداش، نائب حزب الشعب الجمهوري في البرلمان، جدولاً بين فيه بكل وضوح الآثار التي تركتها “المعجزة الاقتصادية” لحكومات العدالة والتنمية على المواطن، وقال لو أضفنا الرقم الذي صرحت به الحكومة لبلغ الرقم 6 مليون عاطل عن العمل، ويتابع الكاتب، هذا هو انعكاس التنمية الاقتصادية والدخل القومي الذي ازداد 3,5 ضعفاً على الشعب التركي في عهد هذه الحكومة التي يقال إنها الأكثر نجاحاً.. لا نشهد سوى المزيد من البطالة والمزيد من اليائسين؟!.
الفساد
في حملة إيديولوجية واضحة، وتحديداً منذ بداية عام 2011، بدأ اردوغان يتصرف بأسلوب مختلف، يرتب بيته الداخلي وفق رؤيته الخاصة تمهيداً للوصول إلى مبتغاه أو لمشروع انخرط فيه وكان رأسه، فقد ضرب نخبة الأعمال الكبيرة التي تشكلت بدعم من الجيش لعقود، ومنح تعاقدات حكومية مربحة لأشخاص على صلات بحزب العدالة والتنمية، ولأفراد من عائلته وحزبه وحاشيته من الوزراء، وباع جميع ممتلكات القطاع الحكومي للرأسمال الأجنبي، الذي أصبح يسيطر على حوالي ٧٠٪ من قطاع المصارف والأسواق المالية، ما ساهم في تحويل تركيا إلى مركز رئيسي لغسل الأموال، وفق تقارير أوروبية وأميركية، والتي أشارت أيضاً إلى قضايا الفساد الخطيرة التي طالت اردوغان وأولاده ووزراءه، كما توقعت مستقبلاً قاتماً له في حال استمر في حساباته الشخصية التي تتناقض مع حسابات واشنطن والعواصم الغربية، فهل مصير عدنان مندريس ووزير خارجيته فطين رشدي، وهو خشبة الإعدام التركية، ينتظران اردوغان ووزير خارجيته السابق ورئيس وزرائه الحالي “اوغلو”؟
لم يحدث في عهد من العهود عمليات رشوة وفساد باسم الدين كما يجري الآن في تركيا، حيث تم طلب تبرعات ” قسرية” من رجال الأعمال لبناء جامع ضخم بغية جذب انتباه الرأي العام إليه، مقابل الوعد بتسهيل أمورهم التجارية.. فما علاقة ذلك بالفكرة أو النظرة الإسلامية؟! وهل هذه الرؤية إسلامية؟ ولكن يبقى السؤال، أين تذهب هذه الأموال؟، وكم منها مسجَّل؟ ، أم أن المتدينين مستحيل أن يسرقوا؟
في مقابلة تلفزيونية، جرت في 25 كانون أول 2014، شارك فيها أكرم دومانلي، على قناة “بوجون”، قال: بأن اثنين من كبار رجال الأعمال اللذين يزورانه من حين لآخر، قالا له: لم يعد بالإمكان تسيير الأمور بغير رشوة في الدوائر الحكومية، وفي كلمة ألقاها البروفيسور حسين باغجي في ملتقى المثقفين الأتراك والروس الثالث في مدينة انطاليا جنوب غرب تركيا أوضح فيها، أن العالم الإسلامي أوشك على أن ييأس من اعتبار تركيا نموذجا في الديمقراطية والانفتاح نتيجة الفساد المستشري فيها.
وكشف نواب المعارضة باللجنة البرلمانية للتحقيق في قضايا الفساد والرشوة التي طالت بعض الوزراء السابقين وبعض المقربين من الحزب الحاكم والرئيس اردوغان، أن الوزراء المتهمين في قضايا الرشوة تلقوا ما لا يقل عن 62 مليون دولار أمريكي تقريباً كرشوة، وبعملية سريعة استطاع اردوغان، نقل وتغيير المسؤولين في النيابة العامة ورجال الشرطة الذين لعبوا دوراً أساسياً في كشف قضية الفساد، وعين قضاة ومدعين عامين موالين ومقربين منه، أفضى ذلك لإصدارهم قراراً بإعادة هذه الأموال إلى أبناء الوزراء الفاسدين والبيروقراطيين، واحتساب فوائدها وتسليمها إليهم بالفوائد، رغم أنها سجلت “أموال رشوة”، وكشفت صحيفة “سوزجو” التركية أن بلال الابن الأصغر لاردوغان اشترى مكتباً بقيمة 150 مليون دولار على ضفاف مضيق البوسفور ليتمكن من إدارة شركته لنقل النفط ومجموعة BMZ المساهمة للنقل البحري وبناء السفن”، وأن بُـراق، الابن الأكبر لاردوغان، يملك خمس سفن تجارية، وأن عمه وصهره باشرا الدخول في قطاع النقل البحري كشركاء لشقيقه بلال ويمتلكان سفناً عديدة، وتبقى التسجيلات الصوتية التي ظهرت عقب عملية كشف الفساد في 17 كانون الأول 2013، تؤكد أن اردوغان طلب من ابنه بلال أن ينقل 30 مليون يورو موجودة في المنزل إلى مكان آخر، وتقول المعارضة التركية أن اردوغان حصل على رشوة من رجال الأعمال استطاع من خلالها تكوين ثروة قدرت بمئات الملايين من الدولارات تضاف للمليارات التي تلقاها من جورج بوش الابن أيام غزو العراق، غير الدعم الخفي وماله “الأحمر السياسي والأخضر الإسلامي”، لخدمة المشروع الإسلاموي السياسي في المنطقة.
ووفق إحصائية أجريت حول ملف الفساد جاء فيها، أن غالبية كاسحة بنسبة 61%، وافقت على رفع دعاوى قضائية ضد المئات من رجال الأعمال ومسؤولي الحكومة والوسطاء المتهمين بقضايا الفساد، وأفراد أسرته، فكان رد اردوغان بأن هناك تآمر ضد حكومته والتخطيط لانقلاب عسكري، وعلى هذا، شن حملة تطهير واسعة على الشرطة والقضاء في كانون الثاني 2014، نتيجة كشفها لملفات الفساد، وحاول التعمية والتلميع والترقيع والتعديل لكنه فشل في التعديل الوزاري الذي أجراه لتخفيف قلق المستثمرين من تبعات فضيحة الفساد المتصاعدة، وأقر نائب رئيس الوزراء التركي للشؤون الاقتصادية علي باباجان، أن خسارة اقتصاد بلاده وصلت إلى نحو عشرين مليار دولار، نتيجة تراجع سوق المال التركية قرابة 3%، وهبوط سعر الليرة مقابل العملات الأجنبية، وتراجع زخم النمو للاقتصاد التركي المتأثر بتراجع الصادرات”، ولكنه كسيده أعزى سبب ذلك، للأحداث الجارية في المنطقة وليس الفساد.
إن تحقيقات قضايا الفساد تفرض تحدياً كبيراً على اردوغان، يصفه محللون ودبلوماسيون غربيون بأنه من الممكن أن يكون أقوى من معركة احتجاجات “ساحة التقسيم”، لكن اردوغان وصف عملية اعتقال العشرات من المقربين منه والحكومة بأنها “عملية قذرة” تستهدف تقويض حكمه.
فضيحة الفساد غير المسبوقة التي هزت حكومة حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، لم تقتصر عليها فقط، بل هزت تركيا وتسببت في أزمة سياسية كبيرة في البلاد، ولكن يبقى التساؤل يتمحور حول ما إذا كانت هذه الأزمة تنبعث من الداخل أم أنها من صنع قوى خارجية تسعى لتشويه الحكومة التركية وعرقلة دورها على المستوى الدولي كما يقول اردوغان؟، الأكاديمي التركي تيلان درمش، يرى غير ذلك: “إن ما يقوله اردوغان عن ضلوع قوى خارجية في الأزمة، و”نظرية المؤامرة”، هو غير صحيح، وأن الجانب الأكبر مما تشهده تركيا من أزمة، هو الفساد الداخلي البحت ولا علاقة للقوى خارجية فيه، ولا يمكن أن تخطئه عين”، ويضيف: “لو لم يكن هناك فساد فكيف تفسر أن الملايين من الأتراك يعيشون في حالة فقر وبالكاد يدبرون حاجياتهم اليومية، بينما يحصل شخص مقرب من وزير متنفذ على ملايين الدولارات شهرياً، ليس بسبب الاجتهاد وإنما لقربه من الوزير”، ويرجع درمش في تحليله لأزمة حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه، ويرى أن “الحزب نشأ من تحالف أطياف سياسية مختلفة، لكل منها إيديولوجيته الخاصة، وَحّدها عدو مشترك تمثل حينئذ في “الجيش والعلمانيين”، ونتيجة المكاسب الاقتصادية التي جناها الشركاء داخله من بيع للقطاع العام، قدموا التنازلات الإيديولوجية ونالوا جزءاً من الكعكة الاقتصادية، وبغياب العدو المشترك “الجيش” تضخم الثراء وظهر الفساد، وبدأ التفكك بين أطيافه.
يبدو أن أزمة الفساد ستطول في ظل غياب حلول قادرة على إنهاء حرب السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، التي يؤجج أوارها إصرار الحكومة على إصلاح القضاء والذهاب به إلى أقصى حد، واعتماده في البرلمان، رغم التنديد به معارضة وقضاة، واعتباره “غير دستوري”، وضد مبادئ استقلال القضاء والفصل بين السلطات، لقد انعكست هذه الأزمة السياسية على الاقتصاد التركي وهددته، وهو “فخر” حزب العدالة والتنمية، الذي اعتبره طفرة اقتصادية في مدة قصيرة، “حسب رأيه”، ولكن الحقيقة غير ذلك، ألم تصل الليرة التركية أدنى مستوياتها مقابل الدولار واليورو، ولحقتها البورصة نتيجة الفساد، وبقي مؤشرها الرئيسي عاجزاً عن قلب الاتجاه العام، واردوغان مافتئ يتحدث عن “مؤامرة” خارجية ضد حكومته، حاكتها حركة الداعية غولن التي يتهمها بتشكيل “دولة موازية” لدولته، ولكونها نافذة في القضاء والشرطة، فكان هدفه التشويش على التحقيق في قضية الفساد وتبرئة حزبه والشخصيات المقربة والنافذة في عالم السياسة والأعمال؟
إذا كان شعار “مكافحة الفساد” و”الكف النظيف”، الذي تغنى به اردوغان وحزبه، أوصلاهما في 2001 إلى الحكم، فهل “المفسدة المطلقة” التي يتخبطان بها تستطيع إخراجهما منه؟، يبقى القول الفصل بعد أيام قليلة.
ب – خارجياً:
ما وصلت تركيا إليه من وضع سياسي معقّد وخطير على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية في ظل حكم اردوغان، وبالتوازي مع سياسته الداخلية، وجنون مفكره الطامح” اوغلو”، رفع من منسوب الخلافات المتعددة في كل مكان، وظناً منها أنها تجيد لعبة الأقنعة المتعددة والرقص على الحبال في مواجهة الإعصار الذي اكتسح المنطقة، جهزت أقنعتها للتعاطي مع كل أطرافه: من واشنطن إلى بغداد، واربيل فالأكراد في سورية والعراق وأكرادها، ومع قطر والسعودية و”إخوان” مصر، وروسيا وإيران وأوروبا وغيرهم، وقناع الإرهاب التكفيري “داعش والنصرة” ورديفاتهما من تنظيمات إرهابية أخرى، واستكملت بذلك دورة العداء للمحيط العربي والإقليمي والدولي، وتلبدت المنطقة بغيوم المؤامرات، وأصبحت الصورة أكثر ضبابية، وتعاظمت التعقيدات السياسية، واضمحلت فرص التسويات السياسية، وأصبح من الصعب استشراف مستقبل المنطقة اقتصادياً وامنياً واجتماعياً، في إطار اختبار فرضية فاشلة مسبقاً تقول: بأن التغيير بالعنف سبيل “للاستقرار والرفاه الاقتصادي”، فهل هذا اللهيب المتأجج الذي يلف تركيا من كافة الجهات، يخدمها و ينمي اقتصادها؟
قبيل “الجنون السياسي”، جربت تركيا سياسية التعقل مع الجيران، تجنبت من خلالها المشاكل والتوتر، ورفعت شعار “صفر مشاكل”، فجنت من الندية الكثير جراء فتح الأبواب على مصراعيها لها، “اقتصادياً وسياسياً”، لكن فخ ما يسمى “الربيع العربي” الإعلامي الذي نُصب للعلاقات الدولية، ولخرائط دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اقتصادياً، وسياسياً، وجد فيه الجنون الاردوغاني بحر أحلامه ممتطياً سياسات دول الناتو الغربية العسكرية كموجة نقلته من حالة التعاون مع دول المنطقة، إلى حالة التوتر والصراع، وبهذا التعديل غير المحسوب، قدم نفسه كمخلص وداعم لحركات “التغيير الديمقراطي” المزعوم أو اعتباره كـ ” نموذج إسلامي معتدل” يرتجى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكان المحفز في تماديه السياسي، وصول حركات الإسلام السياسي للحكم في تونس ومصر، واعتقاداً منه بأن هذا يصب في خانة شعاره “الإسلام هو الحل”، وفق تغريدة نشرت على حسابه الرسمي باللغة العربية على موقع ” تويتر”، جاء فيها: ” تركيا لا تتدخل في السياسة الداخلية لأية دولة، ولكنها تعتبر نفسها صوت إخوانها وأصدقائها المظلومين المسحوقين، تساندهم لإيصال صوتهم إلى العالم”.
في الحقيقة، لم تكن سياسة تركيا في المنطقة عموماً ودول الجوار خصوصاً، تسعى إلا في اتجاه استمرار التوتر والصراع للسيطرة وتحقيق حلم “السلطنة العثمانية الجديدة”، الذي دعا إليه أحمد داود اوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي”، وفي حوار له مع الـ “واشنطن بوست”، قال: “على تركيا أن تكون لاعب رئيسي في المنطقة لا بل في السياسة العالمية”، وتعتبر تصريحاته في كانون الأول 2010، هي الأوضح، حيث اعترف صراحة بالدور الذي تطمح أن تلعبه تركيا في منطقة الشرق الأوسط ومحيطها الإقليمي، حيث قال: “إن بريطانيا أسست الكومنولث مع مستعمراتها السابقة، فلماذا لا تكرر تركيا زعامتها في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى”؟، لكن أحلامه وسيده اصطدمت بواقع آخر غير متوقع فرضه صمود سورية وجيشها البطل، لتنتقل تركيا من إستراتيجية ” تصفير مشاكل”، إلى مليون مشكلة معقدة وعصية عن الحل، إن هذا الركض السياسي التركي خلف “الربيع العربي”، سيخلق تداعيات سياسية واقتصادية ضخمة على مستقبلها، في المنطقة وشمال أفريقيا.
ففي مصر: منذ بداية “الربيع العربي” والبوصلة السياسية التركية تزوغ في علاقاتها مع الدول العربية وتحديداً منذ منتصف 2013، فقد تعاطى اردوغان بعد ثورة 30 – حزيران في مصر، كما لو أنها شأن داخلي تركي، أو أن مصر ولاية عثمانية، فأنكر شرعية انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً للجمهورية، وأكد وقوف تركيا مع جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المعزول مرسي، لا بل اعتبر ما حدث في مصر انقلاباً عسكرياً، وجاء بيان خارجيته مؤكداً وقوف تركيا إلى جانب “الشرعية”، أي مرسي والإخوان، وعدّته مصر تدخلاً غير مقبول في شأنها الداخلي ولوحت بأوراق الضغط، مهددة بوقف الاستثمارات التركية وانتقال رؤوس أموالها في مصر، وتجميد سائر أشكال التعاون العسكري بينهما، وإلى ما هنالك من أوراق ضاغطة، قطعت العلاقات بين البلدين وألغيت اتفاقية “الرورو” الموقعة في عهد مرسي، آذار 2012، لنقل البضائع التركية بحراً إلى الخليج العربي المنفذ الوحيد لها، بعد إغلاق حدود سورية والعراق، وبالتالي تم خنقها اقتصادياً، وما حدث في مصر يمثل خسارةً سياسية كبرى للمشروع التركي في الهيمنة على المنطقة وفقدٌ للمصداقية بدورها فيه، باعتبار أن الإخوان في مصر كانوا الحليف الاستراتيجي المكمّل لهذا المشروع لأسباب تاريخية وجيوستراتيجية، وهذا ما يفسر ذلك الردّ العنيف لاردوغان، لأنه يدرك أن عودة الدور المصري لساحة الإقليم يقلل هامش الحركة أمام السياسة الخارجية التركية، التي بنت إستراتيجيتها على غيابه، أو تحويله كتابع لها، وهو ما أفشلته ثورة الثلاثين من حزيران، فكان الرد مناصبة العداء لمصر، ولم يدرك بأن مشروعه الإخواني نعاه أسياده في الغرب، وربيبته المارقة في الشرق مملكة الرمال الوهابية، ألم يحرقوا ورقته الإخوانية “حماس”، لإفقاده ورقة مهمة في إستراتيجيته العقائدية والسياسية، التي تبقيه في الشارع الإسلامي والعربي، تقول شبكة “بلومبرج” الأمريكية في تقرير صادر عنها: “إن اردوغان، يتودد لدول الخليج بعد رهانه الخاطئ في مصر، للحد من الخسائر الاقتصادية لبلاده، بعد أن قطعت مصر علاقاتها بتركيا، وما زال يراهن؟
في سورية، وضعت الأزمة حداً لتصاعد النفوذ التركي في المنطقة الذي بلغ أوجه في العام 2010، ثم بدأ بالانحسار تدريجاً بتآمره عليها، وانخراط أنقرة في الحرب السورية، وتباعاً مع الأزمات المتعددة “من شمال أفريقيا إلى أوكرانيا”، فهل تراجع أنقرة سياستها الرعناء وتتراجع عن الاندفاع الأرعن باتجاه الحلم السلطاني والنموذج الطوراني الذي أوهمها به أسيادها بأنها “النموذج وحامي عرين المسلمين” في المنطقة، أم تنكفئ تماماً داخل حدودها وتحافظ عليها وعلى وحدة أراضيها وكرامة شعبها وحضورها في المنطقة كدولة تسعى لتأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية وتصون كرامتها مسالمة آمنة، أم تبقى تصر على خروجها كحامي عرين، تهدم حدوداً وتُرسم أخرى على أبعاد مذهبية وإثنية، وهي ليست محصنة ضدها؟
يحاول اردوغان اليوم تعويض خسارته المريرة لورقة “الإخوان المسلمين” عبر ورقة أكراد سورية، بالسعي لكسب ودّهم وحشدهم في صفه من جانب، وعلى المقلب الآخر، يقدم الدعم الأشمل للعصابات التكفيرية المقاتلة على الأرض السورية، ومن كل النواحي، حيث يعمل داخل قيادة “داعش والنصرة” خبراء وعناصر من دائرة الحرب الخاصة التركية التي توجّه العمليات العسكرية وخططها، كما حوّل تركيا مقراً وممراً لهم نحو سورية والعراق، وهذا ما أكده مدير الإرهاب في “الانتربول الدولي” بيار سانت هيلير، حيث قال: إن المسلحين الجهاديين كثفوا من دخولهم إلى تركيا عبر الموانئ البحرية، وأن مرفأ ازميت عند الساحل الشرقي من بحر مرمرة تحول إلى البوابة الرئيسية لتدفق المقاتلين الأجانب إلى تركيا، ومنها إلى سورية والعراق”.
مع كل الأحداث التي تعصف بالمنطقة، يبدو الرئيس التركي رجب طيب اردوغان خارج التاريخ، وكأنما الزمن توقّف عنده قبل أكثر من ثلاث سنوات ضد سورية، فقدم كل أنواع الدعم السياسي والمالي والعسكري” بما فيه “الكيماوي” – كتيبة ريح صرصر- واللوجستي لجميع الجماعات المسلحة التي تقاتل في سورية، واستضاف اجتماعات قاداتها وممثليها بغية توحيد قواها للقتال في سورية، ومارس الإرهاب الإعلامي والتجييش الطائفي، وحض على سفك الدم السوري ورصد الأموال الطائلة لإذكاء نار الفتنة الطائفية التي أحرقت الجميع، كل هذا من أجل مطامعه للسيطرة على الغاز والنفط المكتشفين في سورية بالتعاون مع إسرائيل وقطر، ووصلت هذه العلاقة إلى أقصى درجات التوتر، وتم حشد القوات التركية على الحدود السورية لتغطية العمليات الإرهابية من قبل الجماعات المسلحة على كامل حدودها، ألم يكن التعاون السوري مثمر وايجابي مع أنقرة، وكانت سورية الشريان الحيوي للاقتصاد التركي مع دول الخليج، وانتعش من هذا الشريان، يقول سونر جاغايتاي و جميس جيفري في مقال كتباه في صحيفة نيويورك تايمز 17 أيار 2013، وكان بعنوان: هل يستطيع أوباما إنقاذ تركيا من المستنقع السوري؟، جاء فيه: [“إن الحرب على سورية تهدد المكاسب الجمة التي حققها اردوغان لتركيا، حيث لأول مرة في تاريخ تركيا أصبح غالبية المجتمع التركي من الطبقة المتوسطة، وهو الأمر الذي ساعد “العدالة والتنمية” على الفوز بثلاثة انتخابات متتالية منذ عام 2002، وكذلك المستقبل السياسي للسيد اردوغان، وإن ما جنته يداه في سورية يهدد بإنهاء “المعجزة الاقتصادية” التركية”].
في العراق: تعمل مئات الشركات التركية في العراق، و90% من المقاولات في كردستان تذهب لشركات تركية، إضافةً إلى شراء الغاز، وتصدير النفط من حقول كردستان، حيث بلغت العلاقات الاقتصادية بين البلدين 12 مليار دولار، ثمانية منها في كردستان، وهناك 500 شركة تركية للاستثمار، و1800 تركي يعملون في الإقليم”، حسب تصريحات اوغلو أثناء زيارته لبغداد، أليس هذا مهماً لتركيا أن تعوض ما خسرته في المجال الاقتصادي والتبادل التجاري نتيجة رعونتها السياسية مع سورية وغيرها من الدول العربية، وبدل أن تسهم في إنهاء الأزمة الأمنية والاقتتال الدائر على الساحة العراقية، عمدت لتأجيجها، فقضت على الفرص الكبيرة لشركاتها في مجال إعادة الإعمار، وتوريد السلع والبضائع والخدمات.
تدخلت تركيا بثقل كبير في العراق، وقدمت الدعم السخي لتنظيم داعش الذي عاث دماراً وقتلاً وإبادة في العراق، خاصة المنطقة التي تعتبر تركيا حمايتها بسبب “الانتماء المذهبي”، واحتل الموصل التي ما تزال تعتبرها ملكها، جردتها اتفاقية “سايكس بيكو”- منها حسب زعمها- ، وقاتل الأكراد في شمال العراق واحتل أجزاء من مناطقهم بمباركة تركية، كل هذا بفضل التخبط السياسي التركي الذي تسبب بخسائر كبيرة لها، سياسياً واقتصادياً، فأحرقت ورقتها القوية “عشائر شمال العراق”، التي كانت تعدها بعداً مهماً من أبعاد سياستها في العراق، وضم الأكراد كركوك إلى حكمهم الذاتي، وهي التي تَعتبره خطاً أحمرا، وأُجبرت بضغط أمريكي للسماح لقوات “البشمركة” في العراق بالدخول عبر أراضيها لنصرة أخوتهم الأكراد في عين العرب السورية بعد أن احتلها “داعش”، فالتفّ الأكراد حول قضيتهم متناسين خلافاتهم المتشعبة، بما فيه “حزب العمال الكردستاني” و”حزب الاتحاد الديمقراطي”، الذين تعتبرهما “أنقرة” حزبين إرهابيين، فتوحد الأكراد ككيان على حدودها، وهذا ما حاربت ضده منذ عقود، وأجبرت للوقوف معه بضغط دولي من أجل محاربة داعش، فوجدت نفسها في خندق واحد مع حزب تصنّفه إرهابياً وتقاتله منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لقد فشلت سياسة أنقرة ورئيسها “الملهم العتيد” في العراق، فخسرت ثاني أكبر شريك تجارى لها من حيث الصادرات، فهل يتلمس ما جنته يداه؟
تونس وليبيا: وقف حزب “العدالة والتنمية” إلـى جانب حزب النهضة التونسي، وقدم له الدعم القوي في مجال تقنيات الحملة الانتخابية، ولم يبخل الإعلام الاردوغاني في تقديم الدعاية والإعلان والحديث عن “نضج التجربة الديمقراطية التونسية”، معتبراً ذلك “انتصاراً لمشروع الربيع العربي”، فالغنوشي حليف مهم بالنسبة لاردوغان، وحزب “النهضة” من أكثر الأحزاب الإسلامية قرّباً لحزبه، لا بل توأمه الروحي، لقد سقط “الحلم الاردوغاني” بسقوط الغنوشي وحكمه الإسلامي في الانتخابات النيابية، وأبعدت أنقرة عن تونس.
لم تسلم ليبيا من لهيب الجنون الاردوغاني ونهجه الإخواني، فاكتوت هي الأخرى من هذا اللهيب، ولمّا يزل إواره مستعراً فيها إلى يومنا هذا، ونالت تركيا خسارة كبرى جراء ذلك الجنون ما قُدّرت قيمته بـ /25/ مليار دولار، كمشاريع لها في ليبيا وطرد لعمالها من هناك، وصح القول: “من يلعب بالنار تلقى الحريق أصابعه”.
الخليج: لا يخفى على أحد أن مهلكة الرمال الوهابية وزبانيتها لن يسمحوا بأي دور ريادي إخواني لأنقرة في المنطقة، وتركيا تريد أن تكون صاحبة القول الفصل في مستقبل سورية، وما قبولها “التدريب” إلا تأكيداً على هذا المطلب، وآل سعود يدركون خطورته عليهم فعززوا وجودهم وحضورهم لدى العصابات المسلحة بصفقة أسلحة من واشنطن بقيمة ١,٢ مليار دولار ليقولوا لتركيا أنهم هنا، فردت بإعادة انتخاب أحمد طعمة، “التركماني الأصل”، رئيساً لما يسمى “الحكومة السورية المؤقتة”، وكان الرد بمنزلة الهزيمة الدبلوماسية للسعودية وأنصارها، وتأجج السجال السياسي والخلاف الكبير بينهما حول الدور الإقليمي في المنطقة، وقُطع الدعم المالي “الأحمر” السخي عن تركيا، ما أثر على الاقتصاد التركي بشكل مباشر، وردت دولة الإمارات العربية المتحدة في مسألة الإخوان على تركيا، فقررت القيام بتطوير مطار “بلغراد” في صربيا بهدف القضاء علي مركزية اسطنبول، وعزلت تركيا بعد أن ترنح الحليف الوحيد لها، أمير قطر الجديد في أحضان آل سعود، وغزل اليوم ” حلفاء الضرورة”، فهل هذه السيناريوهات تخدم تركيا اقتصادياً وسياسياً ؟
واشنطن: لم تكن العلاقة التركية الأمريكية جيدة بأحسن الأحوال، فالصراع محتدم بينهما نتيجة المواقف السياسية المتقلبة لاردوغان وطموحه الفردي، الذي يتعارض مع مصالح ودور أمريكا في المنطقة، وخصوصاً فيما يتعلق بالدور الأمريكي في مصر وسورية، والتعاون الأمريكي السعودي لخدمة مصالحهما في المنطقة، فأسقطوا له حليفه القوي مرسي، بتخطيط سعودي ومباركة أمريكية لضرب مشروعه الإخواني، والعلاقة السعودية التركية تشوبها خلافات عقائدية ما بين “الإخوانية والوهابية”، وكل منهما يريد فرض وجوده الريادي في المنطقة، وأمريكا تريد منهما التكامل والتعاون لإنجاح مشروعها في المنطقة، وصعّدت أنقرة لهجتها تجاه واشنطن بعد أن أعلنت الأخيرة نيتها تدريب 5 آلاف عنصر من “الجماعات الإرهابية” المقاتلة في سورية، بقواعد عسكرية سعودية، وتلاه تصعيدٌ آخر بعد تصريحات جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، التي حمّلت تركيا مسؤولية ولادة تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة” والجماعات الإرهابية الأخرى، وتجلى هذا التصعيد في إصرارها لضرورة إقامة منطقة عازلة وحظر جوي في الشمال السوري، لإقناع واشنطن بصحة تقييمها للأمور ودفعها للتنسيق معها، ثم لفقت تهمة للرئيس الأسد، بأنه كان وراء مظاهرات ساحة التقسيم، وهذا ما أزعج أمريكا كونها الآمر الناهي لما يحدث، يضاف لهذا، رفض أنقرة في البداية طلب واشنطن منها السماح لقوات البشمركة الكردية المرور عبر أراضيها لمحاربة “داعش” في مدينة عين العرب السورية، وتأتي المسألة الخلافية الأخرى بينهما، تلك الشروط التي وضعها اردوغان للدخول في “التحالف الدولي” لضرب داعش، وتأتي اتهامات تل أبيب لتركيا، بتدريب وتسليح عناصر “حماس” ضدها للقيام بـ “أعمال إرهابية” لتضع اردوغان أمام وضع صعب في علاقته مع واشنطن واللوبي اليهودي، والغريب أن أمريكا أسقطت الإخوان، ومازال يصرّ على إعادة بناء هذه المنظومة الإخوانية، فهل هذا يخرج تركيا من اللعبة الدولية في المنطقة؟
داعش
بعد أن أدرك اردوغان فشله وفشل مشروعه الإخواني في المنطقة، موّل تنظيم “داعش” وسلحه وقدم له الدعم اللوجستي لاجتياح شمال العراق والشمال الشرقي لسورية، ورأت أنقرة في هذا التنظيم فرصة ثمينة لتحقيق الكثير من مشاريعها الإقليمية، خصوصاً في ظل ما بدا أنه علاقة “عضوية” ما بينه وبين تاريخ تركيا وجغرافيتها العثمانية، فالحلم المشترك في “الإمبراطورية الإسلامية”، الذي عجزت تركيا عن تحقيقه، وكان الحل عندها بـ “داعش”، قوته وقدمت الدعم له ومنحته حرية الحركة والانتشار على أرضها، رغم تصنيفه العالمي كتنظيم إرهابي، وفعلاً كان هذا، فمن أراضيها دخل بعض عناصره عين العرب، وأصبحت تواجه أخطر تحد لها منذ عقود، وهذا التمدد لن يقتصر على شن هجمات من داخل أراضيها أو على مصالحها الإقليمية فحسب، وإنما قد يخلق مشاكل واضطرابات تهدد استقرارها الداخلي، فالحاضن الشعبي له موجود بفضل ثقافة “أبي لهب” الاردوغانية، ولو أن اردوغان قرأ ما حدث في باكستان لكان تعلم الكثير مما دار بين مخابراتها وطالبان التي دعمتها لسنوات، وكيف انقلب السحر على الساحر، ولكن يبقى أنفع القول: “الولد ولد ولو عمر بلد”.
إيران: لو أن السياسة الاردوغانية فكرت ولو للحظة واحدة بعقلانية، لأدركت كم هي طائشة ومسعورة، خاصة بعد التحالف الإسرائيلي الخليجي ضد إيران أولاً، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة ثانياً، ولو أن السياسة الاردوغانية في لحظة استيقاظها تلك، تمكنت من بناء إستراتيجية جديدة لسياستها الخارجية تساعد في إصلاح صورتها وصورة حزبها “العدالة والتنمية”، لكان في مقدورها أن تخلق لتركيا دوراً محورياً في الشرق الأوسط من خلال إقامة علاقة جيدة مع إيران، فكلا البلدين يستطيعان الاستفادة من تحالف قوي بينهما، فتركيا بأمس الحاجة لمساعدةٍ إيرانية في العراق بعد الصورة القاتمة لها هناك، وإيران قادرة على أن تساعد خاصة بعد اللهيب المستعر على الحدود العراقية السورية التركية، وأيضا تركيا في أمس الحاجة للمساعدة إيران بخصوص القضية السورية، ناهيك عن الحاجة للنفط الإيراني وسوق التبادل التجاري، وتقليص الدور السعودي المنافس لهما.
لقد أصبحت مصداقية تركيا على المحك، وعلاقتها مع إيران مرهونة بمدى الموقف من الأزمة السورية وعدم العرقلة، وربما همش الدور التركي في المنطقة بعد فشله في سورية ومصر، أو أنه تغير، ولهذا ذهبت أمريكا إلى إيران وفاوضتها.
روسيا: تستورد تركيا نحو55% من الغاز الطبيعي و12% من نفط روسيا، وهي تساعد تركيا على بناء أول محطة نووية لها، ويدرك اردوغان بأن نمو بلاده الاقتصادي وحظوظه السياسية تعتمد في الحفاظ على إمدادات النفط والغاز المنتظمة من روسيا، وأن التدفق الكبير للسياح الروس والاستثمارات والصادرات والإنشاءات التركية وصفقات العقود الأخرى مع روسيا حسنت الاقتصاد التركي وساعدت في نموه، والعاقل من يحافظ على المكاسب لا أن يهدرها، كما يفعل اردوغان من هدر لما تقدمه روسيا لأنقرة، ألم تمنح اتفاقية مونترو، بين روسيا وتركيا لعام 1936، تركيا بعض المزايا، وأتاحت لها عسكرة المضايق وإدارة الحركة الملاحية داخل المضايق وخارجها، فلماذا انقلب عليها اردوغان وسهّل لأمريكا “عدوة روسيا” تحركاتها البحرية والجوية في البحر الأسود ومنطقة القوقاز وأصبحت قواتها تهدد أمن روسيا، مع أن الاتفاقية تضع قيوداً على الحقوق الملاحية لأساطيل الدول غير المتشاطئة للبحر، أليس هذا بمثابة الانتحار السياسي وخنق للاقتصاد التركي الذي ساهمت في إنعاشه روسيا؟، وتأتي موافقته على نصب الدرع الصاروخي الأمريكي ضد روسيا في 2010 على أراضيه اعتراف منه باستبدال العرفان بالأذية، وهل التصريحات التي أطلقها حول أوكرانيا وجزيرة القرم تصب في مصلحة روسيا أم ضدها، أم أن مواقفه الجائرة من سورية الحليف التاريخي لروسيا، يقربه من روسيا ويخدم مصالحه؟
في زيارته الأخيرة لتركيا بداية العام الحالي، طرح بوتن تحويل خط “السيل الجنوبي” الذي يمر في بلغاريا ويصل إلى أوروبا، أن يتحول إلى تركيا، وبالتالي ستكون تركيا الجسر الذي يتم من خلاله عبور الغاز الطبيعي إلى أوروبا، مما يمنحها خريطة معقدة من شبكات الأنابيب لنقل الطاقة التي تستولد خريطة جديدة هامة من العلاقات الدولية، وتكون الجغرافيا قد قَدَّرتِ أن يكون لروسيا وتركيا دور كبير في تكوين هذه الشبكات الاقتصادية والسياسية، فلماذا لا يعمل اردوغان لتكامل الدورين وتأسيس علاقة جديدة بين روسيا وتركيا محورها الطاقة وأنابيبها؟، وتكون تركيا بمثابة اللاعب الثابت الذي لا يتغير في لعبة الطاقة، ومهما تكن العلاقات السياسية والاقتصادية مع أوروبا مهمة بالنسبة لتركيا، فروسيا جار قوي وقادر لا استغناء عنه، ومع هذا فالاتحاد الأوروبي يريد جر تركيا إليه، لفرض عقوبات على روسيا، فهل يعتبر هذا نهج واقعي لاردوغان إذا جرته رعونته وطيشه السياسي نحو أوروبا؟، فإذا كانت تركيا ترغب في أن تكون عضو بالاتحاد الأوروبي وتحقق نزوتها، فمن الغباء القاتل أن تكون طرفاً في التآمر على روسيا.
أوروبياً: إذا كانت تركيا ترغب منذ نصف قرن في أن تكون عضوا بالاتحاد الأوروبي لما يقدم لها من دعم اقتصادي وسياسي- حسب رأيها -، فهل تصريحات اردوغان تصب في هذا المنحى؟، أم أنه جنون العظمة؟، ففي مقال له في صحيفة “نيوزويك” الأميركية، توقف فيه عند العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي موضحاً:
- لا بديل عن تركيا لدى أوروبا، خصوصاً أن توازن القوى في النظام العالمي يشهد تحولاً، والاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تركيا ليصبح أقوى وأغنى وأكثر شمولية وأمناً.
- هل قوة تركيا تقف عائقاً أمام دخولها إلى الاتحاد الأوروبي؟، وإذا كان الأمر صحيحاً، فلا بد من التساؤل بشأن الحسابات الإستراتيجية الأوروبية، على أصدقائنا الأوروبيين أن يعوا أن العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي تقترب بسرعة من نقطة تحول”.
– لم نعد بلداً ينتظر على باب الاتحاد الأوروبي كمتوسل وديع”، وبلادنا تترك أثراً على الساحة العالمية بتطورها الاقتصادي المثير للإعجاب واستقرارها السياسي.
– اقتصادنا هو الأسرع نمواً في أوروبا، وتركيا سوق للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتركيا أصبحت لاعباً إقليمياً ودولياً، وهي تعيد اكتشاف جوارها الذي غضّت الطرف عنه طوال عقود.
ويأتي تحذيره للسفراء الأجانب خاصة “أوروبا وأمريكا”، بإبعادهم لقيامهم بعمليات “تحريض واستفزاز ومكائد”، على خلفية فضيحة الفساد، وحرية الصحافة والإعلام.
لم يطرأ تطوّر كبير على العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا منذ عام 2004، لأن دول الاتحاد أرادت اردوغان تابعاً ومنفذاً لأجندتها السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ولكن بعد فشله في المشروع المسند إليه تغيرت العلاقات، ويأتي إقرار اوغلو رئيس الوزراء التركي: [” بأن هناك تحولاً في صورة تركيا لدى الغرب، إذ أصبحت هذه الصورة سلبية بعد أن كانت تركيا “نموذجاً اقتصادياً وسياسياً” ناجحاً بالنسبة للغرب، ومنذ فترة تحول الرئيس اردوغان بنظر الغرب إلى ديكتاتور يريد الإطباق على كل السلطات، بعدما كان يتصدر الصحف الغربية كشخصية سياسية ناجحة”]
ألم تربح تركيا بعلاقاتها التجارية مع دول منطقة الشرق الأوسط؟، فزاد حجم التبادل التجاري معها خلال العشر سنوات الماضية؟، وارتفعت واردات السياحة التركيّة، وزاد حجم الصّادرات من 11% في 2001 إلى 35 % عام 2013، بينما حجم الصّادرات التركية إلى الاتحاد الأوروبي 60% في تلك الفترة، تراجع إلى 40%، بعد هذا كله، يمكننا القول: ارتهن للأجندة السياسية الغربية فلم يربح الغرب، لكنه خسر الشرق، فخسر السياسة والاقتصاد.
النتيجة: كان القصد من هذا العرض أن أوضح كمقدمة لمستقبل الاقتصاد التركي في ظل السياسة الاردوغانية وانعكاساتها عليه، هذا الاقتصاد الذي انخرط الكثير من الإعلاميين والساسة والمنتفعين والمأجورين والمنخرطين في المشروع الأمريكي الصهيوني الرجعي العربي للمنطقة، للتطبيل له وللدور التركي “الإسلاموي المعتدل”، الذي يكمن فيه الحل السحري لداء المنطقة، حسب رأيهم، ولكنه في الحقيقة ما هو إلا فقاعة وهمية ظهرت على سطح مشروع التقسيم والهيمنة الاستعمارية “الصهيوأمريكي” للمنطقة، تنفذه أدواته العميلة من مرتزقة إسلاموية، يمازجها عمالة رجعية عربية وحكام دول وظيفية خدمة لهذا المشروع.
حبذا لو قرأ اردوغان الواقع بعقلانية، لكان أدرك أن هناك مساحة كبيرة بين” الرغبة والقدرة”، وأن هناك خطوطاً حمراً وبروز عالم جديد ووقائع جديدة تُرسم على الواقع، رغم أنها مؤلمة أحياناً، وأن الصراعات منهكة جداً وبديلها التسويات والاتفاق والتوافق، والتشبيك قادم إلى المنطقة، لكنه لم يقرأ، وفضل الإشتباك على التشابك، وذهبت سياسته الشرق أوسطية على غير هدى، وأدت الاضطرابات التي أججها في أنحاء المنطقة إلى الخصم من حضور تركيا وحرق تطلعاتها الاقتصادية، فهل يحدد هذا مستقبل اردوغان السياسي؟ ويكون هذا اختباراً لتركيا ومصيرها الاقتصادي المنعكس عن سياسة الطيش لواليها، سلطان الباب العالي؟
المصادر:
http://studies.aljazeera.net/issues/2012/10/20121016111018502194.htm
http://studies.aljazeera.net/positionestimate/2014/03/201436154217329133.htm http://pukmedia.com/AR_Direje.aspx?Jimare=25473
http://www.al-akhbar.com/node/218883
http://www.al-akhbar.com/node/218064
http://akhbarturkiya.com/?p=45380
http://www.al-akhbar.com/node/2086
التعليقات على الموضوع